لما أحبه فيقدم على الله قدوم العبد المبغض الآبق إذا قدم به على مولاه قهرا فلا يخفى ما يستحقه من الخزي والنكال وأما الذي يتوفى على الحب فإنه يقدم على الله تعالى قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه الذي تحمل مشاق الأعمال ووعثاء الأسفار طمعا في لقائه فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم فضلا عما يستحقه من لطائف الإكرام وبدائع الإنعام .
وأما الخاتمة الثانية التي هي دون الأولى وليست مقتضية للخلود في النار فلها أيضا سببان .
أحدهما كثرة المعاصي وإن قوي الإيمان والآخر ضعف الإيمان وإن قلت المعاصي وذلك لأن مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الإلف والعادة .
وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه عند موته فإن كان ميله الأكثر إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره ذكر طاعة الله وإن كان ميله الأكثر إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه عند الموت فربما تقبض روحه عند غلبة شهوة من الشهوات الدنيا ومعصية من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويصير محجوبا عن الله تعالى فالذي لا يقارف الذنب إلا الفينة بعد الفينة فهو أبعد عن هذا الخطر والذي لم يقارف ذنبا أصلا فهو بعيد جدا عن هذا الخطر والذي غلبت عليه المعاصي وكانت أكثر من طاعاته وقلبه بها أفرح منه بالطاعات فهذا الخطر عظيم في حقه جدا ونعرف هذا بمثال وهو أنه لا يخفى عليك أن الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره حتى إنه لا يرى إلا ما يماثل مشاهدته في اليقظة وحتى إن المراهق الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع إذا لم يكن قد واقع في اليقظة ولو بقي كذلك مدة لما رأى عند الاحتلام صورة الوقاع ثم لا يخفى أن الذي قضى عمره في الفقه يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء أكثر مما يراه التاجر الذي قضى عمره في التجارة والتاجر يرى من الأحوال المتعلقة بالتجارة وأسبابها أكثر مما يراه الطبيب والفقيه لأنه إنما يظهر في حال النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والموت شبه النوم ولكنه فوقه ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فيقضي ذلك تذكر المألوف وعوده إلى القلب وأحد الأسباب المرجحة لحصول ذكره في القلب طول الإلف فطول الإلف بالمعاصي والطاعات أيضا مرجح وكذلك تخالف أيضا منامات الصالحين منامات الفساق فتكون غلبة الإلف سبب لأن تتمثل صورة فاحشة في قلبه وتميل إليها نفسه فربما تقبض عليها روحه فيكون ذلك سبب سوء خاتمته وإن كان أصل الإيمان باقيا بحيث يرجى له الخلاص منها وكما أن ما يخطر في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص يعلمه الله تعالى فكذلك آحاد المنامات لها أسباب عند الله تعالى نعرف بعضها ولا نعرف بعضها كما أنا نعلم أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة وإما بالمقارنة بأن يكون قد ورد على الحس منه .
أما بالمشابهة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر جميلا آخر وأما بالمضادة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر قبيحا ويتأمل في شدة التفاوت بينهما وأما بالمقارنة فبأن ينظر إلى فرس قد رآه من قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء ولا يدري وجه مناسبته له وإنما يكون ذلك بواسطة وواسطتين مثل أن ينتقل من شيء ثان ومنه إلى شيء ثالث ثم ينسى الثاني ولا يكون بين الثالث والأول مناسبة ولكن يكون بينه وبين الثاني مناسبة وبين الثاني والأول مناسبة فكذلك لانتقالات الخواطر في المنامات أسباب من هذا الجنس وكذلك عند سكرات الموت فعلى هذا والعلم عند الله من كانت الخياطة أكثر أشغاله فإنك تراه يومئ إلى رأسه كأنه يأخذ إبرته ليخيط بها ويبل أصبعه التي لها عادة الكستبان ويأخذ الإزار من فوقه ويقدره ويشبره كأنه يتعاطى تفصيله ثم يمد يده إلى المقراض