لأن كل واحد من هذه الأعضاء آلة في الدين يفوت بفوتها ذلك الركن من الدين وشكرها بإستعمالها فما هي آلة فيه من الدين وذلك لا يكون إلا بصبر وأما ما يقع في محل الحاجة كالزيادة على الكفاية من المال فإنه إذا لم يؤت إلا قدر الضرورة وهو محتاج إلى ما وراءه ففي الصبر عنه مجاهدة وهو جهاد الفقر ووجود الزيادة نعمة وشكرها أن تصرف إلى الخيرات أو أن لا تستعمل في المعصية فإن أضيف الصبر إلى الشكر الذي هو صرف إلى الطاعة فالشكر أفضل لأنه تضمن الصبر أيضا وفيه فرح بنعمة الله تعالى وفيه احتمال ألم في صرفه إلى الفقراء وترك صرفه إلى التنعم المباح وكان الحاصل يرجع إلى أن شيئين أفضل من شيء واحد وأن الجملة أعلى رتبة من البعض وهذا فيه خلل إذ لاتصح الموازنة بين الجملة وبين أبعاضها وأما إذا كان شكره بأن لا يستعيين به على معصية بل يصرفه إلى التنعم المباح فالصبر ههنا أفضل من الشكر والفقير الصابر أفضل من الغنى الممسك ماله الصارف إياه إلى المباحات لا من الغنى الصارف ماله إلى الخيرات لأن الفقير قد جاهد نفسه وكسر نهمتها وأحسن الرضا على بلاء الله تعالى وهذه الحالة تستدعي لا محالة قوة والغنى أتبع نهمته وأطاع شهوته ولكنه اقتصر على المباح والمباح فيه مندوحة عن الحرام ولكن لا بد من قوة في الصبر عن الحرام أيضا إلا أن القوة التي عنها يصدر صبر الفقير أعلى وأتم من هذه القوة التي يصدر عنها الإقتصار في التنعم على المباح والشرف لتلك القوة التي يدل العمل عليها فإن الأعمال لا تراد إلا الأحوال القلوب وتلك القوة حالة للقلب تختلف بحسب قوة اليقين والإيمان فما دل على زيادة قوة في الإيمان فهو أفضل لا محالة وجميع ما ورد من تفضيل أجر الصبر على أجر الشكر في الآيات والأخبار إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص لأن السابق إلى أفهام الناس من النعمة والأموال الغنى بها والسابق إلى الأفهام من الشكر أن يقول الإنسان الحمد لله ولا يستعين بالنعمة على المعصية لا أن يصرفها إلى الطاعة فإذن الصبر أفضل من الشكر أي الصبر الذي تفهمه العامة أفضل من الشكر الذي تفهمه العامة وإلى هذا المعنى على الخصوص أشار الجنيد C حيث سئل عن الصبر والشكر أيهما أفضل فقال ليس مدح الغنى بالوجود ولا مدح الفقير بالعدم وإنما المدح في الإثنين قيامهما بشروط ما عليهما فشرط الغنى يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمتعها وتلذذها والفقير يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتقبضها وتزعجها فإذا كان الإثنان قائمين لله تعالى بشرط ما عليهما كان الذي ألم صفته وأزعجها أتم حالا ممن متع صفته ونعمها .
والأمر على ما قاله وهو صحيح من جملة أقسام الصبر والشكر في القسم الأخير الذي ذكرناه وهو لم يرد سواه .
ويقال كان أبو العباس بن عطاء قد خالفه في ذلك وقال الغنى الشاكر أفضل من الفقير الصابر فدعا عليه الجنيد فأصابه ما أصابه من البلاء من قتل أولاده وإتلاف أمواله وزوال عقله أربع عشرة سنة فكان يقول دعوة الجنيد أصابتني ورجع إلى تفضيل الفقير الصابر على الغنى الشاكر .
ومهما لاحظت المعاني التي ذكرناها علمت أن لكل واحد من القولين وجها في بعض الأحوال فرب فقير صابر أفضل من غني شاكر كما سبق ورب غني شاكر أفضل من فقير صابر وذلك هو الغني الذي يرى نفسه مثل الفقير إذ لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة والباقي يصرفه إلى الخيرات أو يمسكه على اعتقاد أنه خازن للمحتاجين والمساكين وإنما ينتظر حاجة تسنح حتى يصرف إليها ثم إذا صرف لم يصرفه لطلب جاه وصيت ولا لتقليد منه بل أداء الحق الله تعالى في تفقد عباده فهذا أفضل من الفقير الصابر