فهذا من هؤلاء سؤال للبلاء فاعلم أنه حكى عن سمنون المحب C أنه بلى بعد هذا البيت بعلة الحصر فكان بعد ذلك يدور على أبواب المكاتب ويقول للصبيان ادعوا لعمكم الكذاب وأما محبة الإنسان ليكون هو فى النار دون سائر الخلق فغير ممكنة ولكن قد تغلب المحبة على القلب حتى يظن المحب بنفسه حبا لمثل ذلك فمن شرب كأس المحبة سكر ومن سكر توسع فى الكلام ولو زايله سكره علم أن ما غلب عليه كان حالة لا حقيقة لها فما سمعته من هذا الفن فهو من كلام العشاق الذين أفرط حبهم وكلام العشاق يستلذ سماعه ولا يعول عليه كما حكى أن فاختة كان يراودها زوجها فتمنعه فقال ما الذى يمنعك عنى ولو أردت أن أقلب لك الكونين مع ملك سليمان ظهرا لبطن لفعلته لأجلك فسمعه سليمان عليه السلام فاستدعاه وعاتبه فقال يا نبى الله كلام العشاق لا يحكى وهو كما قال وقال الشاعر .
أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد .
وهو أيضا محال ومعناه أنى أريد ما لا يريد لأن من أراد الوصال ما أراد الهجر فكيف أراد الهجر الذى لم يرده بل لا يصدق هذا الكلام إلا بتأويلين أحدهما أن يكون ذلك فى بعض الأحوال حتى يكتسب به رضاه الذى يتوصل به إلى الوصال فى الاستقبال فيكون الهجران وسيلة إلى الرضا والرضا وسيلة إلى وصال المحبوب والوسيلة إلى المحبوب محبوبة فيكون مثاله مثال محب المال إذا أسلم درهما فى درهمين فهو بحب الدرهمين يترك الدرهم فى الحال الثانى أن يصير رضاه عنده مطلوبا من حيث إنه رضاه فقط ويكون له لذة فى استشعاره رضا محبوبه منه تزيد تلك اللذة على لذته فى مشاهدته مع كراهته فعند ذلك يتصور أن يريد ما فيه الرضا فلذلك قد انتهى حال بعض المحبين إلى أن صارت لذتهم فى البلاء مع استشعارهم رضا الله عنهم أكثر من لذتهم فى العافية من غير شعور الرضا فهؤلاء إذا قدروا رضاه فى البلاء صار البلاء أحب إليهم من العافية وهذه حالة لا يبعد وقوعها فى غلبات الحب ولكنها لا تثبت وإن ثبتت مثلا فهل هى حالة صحيحة أم حالة اقتضتها حالة أخرى وردت على القلب فمالت به عن الاعتدال هذا فيه نظر وذكر تحقيقه لا يليق بما نحن فيه وقد ظهر بما سبق أن العافية خير من البلاء فنسأل الله تعالى المان بفضله على جميع خلقه العفو والعافية فى الدين والدنيا والآخرة لنا ولجميع المسلمين .
بيان الأفضل من الصبر والشكر .
اعلم أن الناس اختلفوا فى ذلك فقال قائلون الصبر أفضل من الشكر وقال آخرون الشكر أفضل وقال آخرون هما سيان وقال آخرون يختلف ذلك باختلاف الأحوال واستدل كل فريق بكلام شديد الاضطراب بعيد عن التحصيل فلا معنى للتطويل بالنقل بل المبادرة إلى إظهار الحق أولى فنقول فى بيان ذلك مقامان .
المقام الأول البيان على سبيل التساهل وهو أن ينظر إلى ظاهر الأمر ولا يطلب التفتيش بحقيقته وهو البيان الذى ينبغى أن يخاطب به عوام الخلق لقصور أفهامهم عن درك الحقائق الغامضة وهذا الفن من الكلام هو الذى ينبغى أن يعتمده الوعاظ إذ مقصود كلامهم من مخاطبة العوام إصلاحهم والظئر المشفقة لا ينبغى أن تصلح الصبى الطفل بالطيور السمان وضروب الحلاوات بل باللبن اللطيف وعليها أن تؤخر عنه أطايب الأطعمة إلى أن يصير محتملا لها بقوته ويفارق الضعف الذى هو عليه فى بنيته فنقول هذا المقام فى البيان يأبى البحث والتفصيل ومقتضاه النظر إلى الظاهر المفهوم من موارد الشرع وذلك يقتضى تفضيل الصبر فإن الشكر وإن وردت أخبار كثيرة فى فضله فإذا أضيف إليه ما ورد فى فضيلة الصبر كانت فضائل الصبر أكثر بل فيه ألفاظ