أدركوا كثيرا من أهل البدع والهوى فما جعلوا أعمارهم ودينهم غرضا للخصومات والمجادلات وما اشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم وأحوالهم بل لم يتكلموا فيه إلا من حيث رأوا حاجة وتوسموا مخايل قبول فذكروا بقدر الحاجة ما يدل الضال على ضلالته وإذا رأوا مصرا على ضلالة هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ولم يلزموا الملاحاة معه طول العمر بل قالوا إن الحق هو الدعوة إلى السنة ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى السنة .
إذ روى أبو أمامة الباهلي عن النبي A أنه قال ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل // حديث ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل تقدم في العلم وفي آفات اللسان .
وخرج رسول الله A يوما على أصحابه وهم يتجادلون ويختصمون فغضب عليهم حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان // حديث خرج يوما على أصحابه وهم يجادلون ويختصمون فغضب حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان الحديث تقدم .
حمرة من الغضب فقال ألهذا بعثتم أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا إلى ما أمرتم به فاعملوا وما نهيتم عنه فانتهوا فقد زجرهم عن ذلك وكانوا أولى خلق الله بالحجاج والجدال .
ثم إنهم رأوا رسول الله A وقد بعث إلى كافة أهل الملل فلم يقعد معهم في مجلس مجادلة لإلزام وإفحام وتحقيق حجة ودفع سؤال وإيراد إلزام فما جادلهم إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم ولم يزد في المجادلة عليه لأن ذلك يشوش القلوب ويستخرج منها الإشكالات والشبه ثم لا يقدر على محوها من قلوبهم وما كان يعجز عن مجادلتهم بالتقسيمات ودقائق الأقيسة وأن يعلم أصحابه كيفية الجدل والإلزام ولكن الأكياس وأهل الحزم لم يغتروا بهذا وقالوا لو نجا أهل الأرض وهلكنا لم تنفعنا نجاتهم ولو نجونا وهلكوا لم يضرنا هلاكهم وليس علينا في المجادلة أكثر مما كان على الصحابة مع اليهود والنصارى وأهل الملل وما ضيعوا العمر بتحرير مجادلاتهم فما لنا نضيع العمر ولا نصرفه إلى ما ينفعنا في يوم فقرنا وفاقتنا ولم نخوض فيما لا نأمن على أنفسنا الخطأ في تفاصيله ثم نرى أن المبتدع ليس يترك بدعته بجداله بل يزيده التعصب والخصومة تشددا في بدعته فاشتغالي بمخاصمة نفسي ومجادلتها ومجاهدتها لتترك الدنيا للآخرة أولى هذا لو كنت لم أنه عن الجدل والخصومة فكيف وقد نهيت عنه وكيف أدعو إلى السنة بترك السنة فالأولى أتفقد نفسي وأنظر من صفاتها ما يبغضه الله تعالى وما يحبه لأتنزه عما يبغضه وأتمسك بما يحبه .
وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق ونظائره وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ودعوا الخلق إليها فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون وما وقعوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون ولولا أنه مقرب عند الله لا عرفه معنى القرب والبعد وعلم السلوك إلى الله وكيفية قطع المنازل في طريق الله فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الخائفين وهو أمن من الله تعالى ويرى أنه من الراجين وهو من المغترين المضيعين ويرى أنه من الراضين بقضاء الله وهو من الساخطين ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين .
بل يصف الإخلاص فيترك الإخلاص في الوصف ويصف الرياء ويذكره وهو يرائي بذكره ليعتقد فيه أنه لولا أنه مخلص لما اهتدى إلى دقائق الرياء ويصف الزهد في الدنيا لشدة حرصه على الدنيا وقوة رغبته فيها