والدنيا وهي منبع المحن والفتن معدن الملاذ والشهوات المنهي عنها وقال موسى عليه السلام فيما أخبر عنه تعالى هذا من عمل الشيطان ولذلك حذر الله منه جميع الخلق فقال الله تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة وقال D إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم والقرآن من أوله إلى آخره تحذير من الشيطان فكيف يدع الأمن منه وأخذ الحذر من حيث أمر الله به لا ينافي الاشتغال بحب الله فإن من الحب له امتثال أمره وقد أمر بالحذر من العدو كما أمر بالحذر من الكفار فقال تعالى وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وقال تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل فإذا لزمك بأمر الله الحذر من العدو الكافر وأنت تراه فبأن يلزمك الحذر من عدو يراك ولا تراه أولى .
ولذلك قال ابن محيريز صيد تراه ولا يراك يوشك أن تظفر به وصيد يراك ولا تراه يوشك أن يظفر بك .
فأشار إلى الشيطان فكيف وليس في الغفلة عن عداوة الكافر إلا قتل هو شهادة وفي إهمال الحذر من الشيطان التعرض للنار والعقاب الأليم فليس من الاشتغال بالله الإعراض عما حذر الله .
وبه يبطل مذهب الفرقة الثانية في ظنهم أن ذلك قادح في التوكل فإن أخذ الترس والسلاح وجمع الجنود وحفر الخندق لم يقدح في توكل رسول الله A فكيف يقدح في التوكل الخوف مما خوف الله به والحذر مما أمر بالحذر منه وقد ذكرنا في كتاب التوكل ما يبين غلط من زعم أن معنى التوكل النزوع عن الأسباب بالكلية وقوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل لا يناقض امتثال التوكل مهما اعتقد القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى فكذلك يحذر الشيطان ويعتقد أن الهادي والمضل هو الله ويرى الأسباب وسائط مسخرة كما ذكرناه في التوكل .
وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي C وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم وما قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر علمهم ويظنون أن ما يهجم عليهم من الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله يستمر على الدوام وهو بعيد .
ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم .
إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب في قلوبنا عن ذكره والحذر منه والترصد له فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا .
وقال قوم إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله واشتغال الهم كله بالشيطان وذلك مراد الشيطان منا بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ولا ننسى الشيطان وعداوته والحاجة إلى الحذر منه فنجمع بين الأمرين فإنا إن نسينا ربما عرض من حيث لا نحتسب وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله فالجمع أولى .
وقال العلماء المحققون غلط الفريقان أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر الله فلا يخفى غلطه وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان كيلا يصدنا عن الذكر فكيف نجعل ذكره أغلب الأشياء على قلوبنا وهو منتهى ضرر العدو ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن نور ذكر الله تعالى فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى وقوة الاشتغال به فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه فلم يأمرنا بانتظار الشيطان ولا بإدمان ذكره وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى إذ جمعت في القلب بين ذكر الله والشيطان وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله وقد أمر الله الخلق بذكره ونسيان ما عداه إبليس وغيره فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من الشيطان ويقرر على نفسه عداوته فإذا اعتقد ذلك وصدق به وسكن الحذر فيه فيشتغل بذكر الله ويكب عليه بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان فإنه إذا اشتغل بذلك بعد معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له