فإن قلت فمن صادف من نفسه كراهة الرياء وحملته الكراهة على الإباء ولكنه مع ذلك غير خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ومنازعته إياه إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه وغير محبب إليه فهل يكون في زمرة المرائين فاعلم أن الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات ولا ينزع إليها وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثمارها من معرفة العواقب وعلم الدين وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر فإذا فعل ذلك فهو الغاية في آداء ما كلف به .
ويدل على ذلك من الأخبار ما روي أن أصحاب رسول الله A شكوا إليه وقالوا تعرض لقلوبنا أشياء لأن تخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم بها فقال A أو قد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان // حديث شكوى الصحابة ما يعرض في قلوبهم وقوله ذلك صريح الإيمان أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود مختصرا سئل النبي A عن الوسوسة فقال ذلك محض الإيمان والنسائي في اليوم الليلة وابن حبان في صحيحه ورواه النسائي فيه من حديث عائشة .
ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له ولا يمكن أن يقال أراد بصريح الإيمان الوسوسة فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة والرياء وإن كان عظيما فهو دون الوسوسة في حق الله تعالى فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر الأصغر أولى وكذلك يروى عن النبي A في حديث ابن عباس أنه قال الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة // حديث ابن عباس الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة بلفظ كيده .
وقال أبو حازم ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه .
فإذن وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من الشيطان والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل إلا أن للشيطان ههنا مكيدة وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال حتى يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصانا في منزلته عند الله .
والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب .
الأولى أن يرده على الشيطان فيكذبه ولا يقتصر عليه بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال معه لظنه أن ذلك أسلم لقلبه وهو على التحقيق نقصان لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق والتعريج على قتال قطاع الطريق نقصان في السلوك .
الثانية أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا يشتغل بمجادلته .
الثالثة أن لا يشتغل بتكذيبه أيضا لأن ذلك وقفة وإن قلت بل يكون قد قرر في عقد ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحبا للكراهة غير مشتغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة .
الرابعة أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جريان أسباب الرياء فيكون قد عزم على أنه مهما نزع الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله وإخفاء الصدقة والعبادة غيظا للشيطان وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه حتى لا يرجع .
يروي عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له إن فلانا يذكرك فقال والله لأغيظن من أمره قيل ومن أمره قال الشيطان اللهم اغفر له .
أي لأغيظنه بأن