الثالثة أن لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصي ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب ثم يبعثه الرياء على فعلها وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض واتباع الجنازة وغسل الميت وكالتهجد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس .
فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفا من المذمة أو طلبا للمحمدة ويعلم الله تعالى منه أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض .
فهذا أيضا عظيم ولكنه دون ما قبله فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق .
وهذا أيضا قد فعل ذلك واتقى ذم الخلق دون ذم الخالق فكان ذم الخلق أعظم عنده من عقاب الله وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقابا على ترك النافلة لو تركها وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه .
فهذا هو الرياء بأصول العبادات .
القسم الثاني الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها وهو أيضا على ثلاثة درجات .
الأولى أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ولا يطول القراءة فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود بين السجدتين وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه D أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة ومن جلس بين يدي إنسان متربعا أو متكئا فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه تقديما للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة في الملأ دون الخلوة .
وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع عليه غيره أخرجها من الجيد خوفا من مذمته وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث لأجل الخلق لا إكمالا لعبادة الصوم خوفا من المذمة فهذا أيضا من الرياء المحظور لأن فيه تقديما للمخلوقين على الخالق ولكنه دون الرياء بأصول التطوعات .
فإن قال المرائي إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود وكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة وإنما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية فيقال له هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس وليس الأمر كذلك فإن ضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه فضلا وولاية يتقلدها فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به إذا كان الملك وحده وإذا كان عنده بعض غلمانه امتنع خوفا من مذمة غلمانه وذلك محال بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر .
نعم للمرائي فيه حالتان .
إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعا .
والثانية أن يقول ليس يحضرني في الإخلاص في تحسين الركوع والسجود ولو خففت كانت صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم فأستقيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم ولا أرجو عليه ثوابا فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفوت الثواب وتحصل المذمة فهذا فيه أدنى نظر .
والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما سبق .
الدرجة الثانية أن يرائي بفعل مالا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال