قوله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس .
السبب الرابع أن المدح يدل على حشمة الممدوح واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر فإن الحشمة أيضا لذيذة لما فيها من القهر والقدرة وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به ولكن كونه مضطرا إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه فلا جرم تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد .
فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ وقد تفترق فتنقص اللذة بها .
أما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في قوله كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم يعلم أو متورع عن المحظورات وهو يعلم من نفسه ضد ذلك فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه وعلى لسانه وبقية اللذات فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ويعلم خلوه عن هذه الصفة بطلب اللذة الثانية وهو استيلاؤه على قلبه وتبقى لذة الاستيلاء والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق اللعب بطلب اللذات كلها فلم يكن فيه أصلا لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم .
وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة فإن ما لا يعرف سببه لا يمكن معالجته إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض .
والله الموفق بكرمه ولطفه وصلى الله على كل عبد مصطفى .
بيان علاج حب الجاه .
اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفا بالتودد إليهم والمراءات لأجلهم ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتا إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب ولذلك شبه رسول الله A حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال A إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل إذ النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها وذلك هو عين النفاق .
فحب الجاه إذا من المهلكات فيجب علاجه وإزالته عن القلب فإن طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال وعلاجه مركب من علم وعمل .
أما العلم فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم وقد بينا أن ذلك إن صفا وسلم فآخره الموت فليس هو من الباقيات الصالحات بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له .
فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق صغر الجاه في عينه إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائنا .
وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن