وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقة وإنما القدرة الحقيقة لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله كما قررناه في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع المنجيات فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا .
نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم وقد يحتاج في استيفاء هذه القوى إلى القدرة بمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالا فقد جهل فالخلق أكثرهم هالكون في غمرة هذا الجهل فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه كمال فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ولما طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى ومن ملائكته وهو العلم والحرية أما العلم فما ذكرناه من معرفة الله تعالى وأما الحرية فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبها بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ولا يستهويهم الغضب فإن دفع آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة .
ومن صفات الكمال لله تعالى استحالة التغير والتأثر عليه فمن كان عن التغير والتأثر بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب وبالملائكة أشبه ومنزلته عند الله أعظم .
وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدرة وإنما لم نورده في أقسام الكلام لأن حقيقته ترجع إلى عدم ونقصان فإن التغير نقصان إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال .
فإذن الكمالات ثلاثة إن عددنا عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها كمالا ككمال العلم وكمال الحرية وأعني به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب الدنيوية وكمال القدرة للعبد طريق إلىاكتساب كمال العلم وكمال الحرية ولا طريق له إلى اكتساب كمال القدرة الباقية بعد موته إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان تنقطع بالموت ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت بل يبقيان كمالا فيه ووسيله إلى القرب من الله تعالى .
فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال القدرة بالجاه والمال وهو الكمال الذي لا يسلم وإن سلم فلا بقاء له وأعرضوا عن كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبديا لا انقطاع له وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وهم الذين لم يفهموا قوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقي كمالا في النفس والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب وهو كما مثله الله تعالى حيث قال إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض الآية وقال تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله فأصبح هشيما تذروه الرياح وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات .
فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له وأن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصودا فهو جاهل وإليه أشار أبو الطيب بقوله