الكبيرة الحادية و الأربعون : التكذيب بالقدر .
قال الله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } قال ابن الجوزي في تفسيره : في سبب نزولها قولان أحدهما أن مشركي مكة أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه و آله و سلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية انفرد بإخراجه مسلم و روى أبو أمامة أن هذه الآية في القدرية و القول الثاني : أن أسقف نجران جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد تزعم أن المعاصي بقدر و ليس كذلك فقال صلى الله عليه و سلم : [ أنتم خصماء الله ] فنزلت هذه الآية : .
{ إن المجرمين في ضلال و سعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر } .
و روى [ عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا جمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة أمر مناديا فنادى نداء يسمعه الأولون و الآخرون : أين خصماء الله ؟ فتقوم القدرية فيؤمر بهم إلى النار ] يقول الله { ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر } و إنما قيل لهم خصماء الله لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها و روى هشام بن حسان عن الحسن قال : و الله لو أن قدريا صام حتى يصير كالحبل ثم صلى حتى يصير كالوتر لكبه الله على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر و روى مسلم في صحيحه [ من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كل شيء بقدر حتى العجز و الكيس ] و قال ابن عباس : كل شيء خلقناه بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه قال الله تعالى : { و الله خلقكم و ما تعملون } .
قال ابن جرير : فيها وجهان أحدهما : أن تكون بمعنى المصدر فيكون المعنى : و الله خلقكم و عملكم و الثاني : أن تكون بمعنى الذي فيكون المعنى : و الله خلقكم و خلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام و في هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة و الله أعلم و قال الله تعالى : { فألهمها فجورها و تقواها } الإلهام إيقاع الشيء في النفس قال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها و تقواها و قال ابن زايد : جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى و خذلانه إياها للفجور و الله أعلم و في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم انه قال : [ إن الله من على قوم فألهمهم الخير فأدخلهم في رحمته و ابتلى قوما فخذلهم و ذمهم على أفعالهم و لم يستطيعوا غير ابتلاهم فعذبهم و هو عادل ] { لا يسأل عما يفعل و هم يسألون } و [ عن معاذ ابن جبل Bه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بعث الله نبيا قط و في أمته قدرية و مرجئه إن الله لعن القدرية و المرجئة على لسان سبعين نبيا ] .
و [ عن عائشة Bها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : القدرية مجوس هذه الأمة ] و [ عن ابن عمر Bهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لكل أمة مجوس و مجوس هذه الأمة الذين يزعمون أن لا قدر و أن الأمر أنف قال : فإذا لقيتهم فأخبرهم أني منهم بريء و أنهم براء مني ] ثم قال [ و الذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبل حتى يؤمن بالقدر خيره و شره ] ثم ذكر حديث جبريل و سؤاله النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و تؤمن بالقدر خيره و شره ] .
قوله أن تؤمن بالله : الإيمان بالله هو التصديق بأنه سبحانه و تعالى موجود موصوف بصفات الجلال و الكمال منزه عن صفات النقص و أنه فرد صمد خالق جميع المخلوقات متصرف فيها بما يشاء يفعل في ملكه ما يريد و الإيمان بالملائكة هو التصديق بعبوديتهم لله : .
{ بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون } .
و الإيمان بالرسل هو التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى أيدهم الله بالمعجزات الدالة على صدقهم و أنهم بلغوا عن الله تعالى رسالاته و بينوا للمكلفين ما أمرهم الله به و أنه يجب احترامهم و أن لا يفرق بين أحد منهم و الإيمان باليوم الآخر هو التصديق بيوم القيامة و ما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت و النشر و الحشر و الحساب و الميزان و الصراط و الجنة و النار و أنهما دار ثوابه و عقابه للمحسنين و المسيئين إلى غير ذلك مما صح به النقل و الإيمان بالقدر : هو التصديق بما تقدم ذكره و حاصله ما دل عليه قوله سبحانه { و الله خلقكم و ما تعملون } و قوله { إنا كل شيء خلقناه بقدر } و من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عباس : [ و اعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام و جفت الصحف ] .
و مذهب السلف و أئمة الخلف أن من صدق بهذه الأمور تصديقا جازما لا ريب فيه و لا تردد كان مؤمنا حقا سواء كان ذلك عن براهين قاطعة أو اعتقادات جازمة و الله أعلم .
( فصل ) أجمع سبعون رجلا من التابعين و أئمة المسلمين و السلف و فقهاء الأمصار على أن السنة التي توف عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم أولها : الرضا بقضاء الله و قدره و التسليم لأمره و الصبر تحت حكمه و الأخذ بما أمر الله به و النهي عما نهى الله عنه و إخلاص العمل لله و الإيمان بالقدر خيره و شره و ترك المراء و الجدال و الخصومات في الدين و المسح على الخفين و الجهاد مع كل خليفة برا و فاجرا و الصلاة على من مات من أهل القبلة .
و الإيمان : قول و عمل و نية يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية و القرآن كلام الله نزل به جبريل على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم غير مخلوق و الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عدل أو جور و لا نخرج على الأمراء بالسيف و إن جاروا و لا نكفر أحدا من أهل القبلة و إن عمل الكبائر إلا إن استحلوها و لا نشهد لأحد من أهل القبلة لخير أتى به إلا من شهد له النبي صلى الله عليه و سلم : و الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي Bهم أجمعين و نترحم على جميع أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و أولاده و أصحابه Bهم أجمعين .
فائدة : فيها من كلام الناس ما هو كفر صرحت به العلماء منها : ما لو سخر باسم من أسماء الله أو بأمره أو وعده أو وعيده كفر و لو قال لو أمرني الله بكذا ما فعلت كفر و لو صارت القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها كفر و لو قيل له : ألا تترك الصلاة فإن الله يؤاخذك فقال لو آخذني بها مع ما في من المرض و الشدة لظلمني كفر و لو قال : لو شهد عندي الأنبياء و الملائكة بكذا ما صدقت كفر و لو قيل له قلم أظافرك فإنها سنة فقال لا أفعل و إن كانت سنة كفر و لو قال فلان في عيني كاليهودي كفر و لو قال أن الله جلس للإنصاف أو قام للإنصاف كفر و جاء في وجه : من قال لمسلم لا ختم الله لك بخير أو سلبك الإيمان كفر و جاء أيضا أن من طلب يمين إنسان فأراد أن يحلف بالله فقال أريد أن تحلف بالطلاق كفر و اختلفوا في من قال رؤيتي لك كرؤية الموت فقال بعضهم يكفر و لو قال لو كان فلان نبيا ما آمنت به كفر و لو قال إن كان ما قاله صدقا نجونا كفر و لو صلى بغير وضوء استهزاء أو استحلالا كفر و لو تنازع رجلان فقال أحدهما لا حول و لا قوة إلا بالله فقال له الآخر لا حول و لا قوة إلا بالله لا تغني من جوع كفر و لو سمع أذان المؤذن فقال إنه يكذب كفر و لو قال : لا أخاف القيامة كفر و لو وضع متاعه فقال : سلمته إلى الله فقال له رجل سلمته إلى من لا يتبع السارق كفر و لو جلس رجل على مكان مرتفع تشبيها بالخطيب فسألوه المسائل و هم يضحكون أو قال أحدهم قصعة ثريد خير من العلم كفر و لو ابتلى بمصائب فقال : أخذت مالي و ولدي و ماذا تفعل كفر و لو ضرب ولده أو غلامه فقال له رجل ألست بمسلم ؟ فقال : لا ـ متعمدا ـ كفر و لو تمنى أن لا يحرم الله الزنا أو القتل أو الظلم كفر و لو شد على وسطه حبلا فسئل عنه فقال هذا زنار فالأكثرون على أنه يكفر و لو قال معلم الصبيان : اليهود خير من المسلمين لأنهم يعطون معلمي صبيانهم كفر و لو قال النصراني خير من المجوسي كفر و لو قيل لرجل ما الإيمان فقال لا أدري كفر و من ذلك ألفاظ مستكرهة مستنكرة و هي : لا دين لك لا إيمان لك لا يقين لك أنت فاجر أنت منافق أنت زنديق أنت فاسق و من ذا و أشباهه كله حرام و يخشى على العبد بها سلب الإيمان و الخلود في النار .
فنسأل الله المنان بلطفه أن يتوفانا مسلمين على الكتاب و السنة إنه أرحم الراحمين .
( موعظة ) عباد الله ! أين الذين كنزوا الكنوز و جمعوا و ثملوا من الشهوات و شبعوا و أملوا البقاء فما نالوا فيها ما طمعوا و فنيت أعمارهم بما غروا به و خدعوا ؟ نصب لهم شيطانهم أشراك الهوى فوقعوا و جاءهم ملك الموت فذلوا و خضعوا و أخرجهم من ديارهم فلا و الله ما رجعوا فهم مفترقون في القبور فإذا نفخ في الصور اجتمعوا .
( و كيف قرت لأهل العلم أعينهم ... أو استلذوا لذيذ العيش أو هجموا ) .
( و الموت ينذرهم جهرا علانية ... لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا ) .
( و النار ضاحية لابد موردهم ... و ليس يدرون من ينجو و من يقع ) .
( قد أمست الطير و الأنعام آمنة ... و النون في البحر لا يخشى لها فزع ) .
( و الآدمي بهذا الكسب مرتهن ... له رقيب على الأسرار يطلع ) .
( حتى يرى فيه يوم الجمع منفردا ... و خصمه الجلد و الأبصار و السمع ) .
( و إذ يقومون و الأشهاد قائمة ... و الجن و الأنس و الأملاك قد خشعوا ) .
( و طارت الصحف في الأيدي منتشرة ... فيها السرائر و الأخبار تطلع ) .
( فكيف بالناس و الأنباء واقفة ... عما قليل و ما تدري بما تقع ) .
( أفي الجنان و فوز لا انقطاع له ... أم في الجحيم فلا تبقي و لا تدع ) .
( تهوي بسكانها طورا و ترفعهم ... إذا رجوا مخرجا من غمها قمعوا ) .
( طال البكاء فلم ينفع تضرعهم ... هيهات لا رقية تغني و لا جزع )