لما ذكر سبحانه عدة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع عقب ذلك بذكر عدة الوفاة لئلا يتوهم أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق قاله الزجاج : ومعنى الآية والرجال الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا : أي ولهم زوجات فالزوجات يتربصن وقال أبو علي الفارسي : تقديره والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم وهو كقولك السمن منوان بدرهم : أي منه وحكي المهدوي عن سيبويه أن المعنى : وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون وقيل التقدير : وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ذكره صاحب الكشاف وفيه أن قوله : 234 - { ويذرون أزواجا } لا يلائم ذلك التقدير لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة وقال بعض النحاة من الكوفيين : إن الخبر عن الذين متروك والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن ووجه الحكمة في جعل العدة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر والأنثى لأربعة فزاد الله سبحانه على ذلك عشرا لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلا ولا تتأخر عن هذا الأجل وظاهر هذه الآية العموم وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدتها هذه العدة ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وإلى هذا ذهب الجمهور وروي عن بعض الصحابة وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتد بآخر الأجلين جمعا بين العام والخاص وإعمالا لهما والحق ما قاله الجمهور والجمع بين العام والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة ولا قواعد الشرع ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن حكمه مغاير لحكم العام ومخالف له وقد صح عنه A أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوج بعد الوضع والتربص الثاني والتصبر عن النكاح وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض والآيسة وأن عدتهن جميعا للوفاة أربعة أشهر وعشر وقيل : إن عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام قال ابن العربي : إجماعا إلا ما يحكى عن الأصم فإنه سوى بين الحرة والأمة وقال الباجي : ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال عدتها عدة الحرة وليس بالثابت عنه ووجه ما ذهب إليه الأصم وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم ووجه ما ذهب إلأيه من عداهما قياس عدة الوفاة على الحد فإنه ينصف للأمة بقوله سبحانه : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وقد تقدم حديث [ طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ] وهو صالح للاحتجاج به وليس المراد منه إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة وعدتها على النصف من عدتها ولكنه لما لم يكن أن يقال : طلاقها تطليقة ونصف وعدتها حيضة ونصف لكون ذلك لا يعقل كانت عدتها وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبرا للكسر ولكن ها هنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور وهو أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا هو ما قدمنا من معرفة خلوها من الحمل ولا يعرف إلا بتلك المدة ولا فرق بين الحرة والأمة في مثل ذلك بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين فإن ذلك يعرف به خلو الرحم ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدة أم الولد واختلف أهل العلم في عدة أم الولد لموت سيدها فقال سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وإسحاق وابن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه : أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص : قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا A [ عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر ] وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه وضعفه أحمد وأبو عبيد وقال الدارقطني : الصواب أنه موقوف وقال طاوس وقتادة : عدتها شهران وخمس ليال وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح : تعتد بثلاث حيض وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه : عدتها حيضة وغير الحائض شهر وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور قوله : { فإذا بلغن أجلهن } المراد بالبلوغ هنا : انقضاء العدة { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن } من التزين والتعرض للخطاب { بالمعروف } الذي لا يخالف شرعا ولا عادة مستحسنة وقد استدل بذلك على وجوب الإحداد على المعتدة عدم الوفاة وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أن النبي A قال : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] وكذلك ثبت عنه A في الصحيحين وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدة الوفاة والإحداد : ترك الزينة من الطيب وليس الثياب الجيدة والحلي وغير ذلك ولا خلاف في وجوب ذلك في عدة الوفاة ولا خلاف في عدم وجوبه في عدة الرجعية واختلفوا في عدة البائنة على قولين ومحل ذلك كتب الفروع .
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { والذين يتوفون منكم } قال : كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله { والذين يتوفون منكم } الآية فهذه عدة المتوفى عنها إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال في ميراثها : { ولهن الربع مما تركتم } فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة { فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم } يقول : إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي العالية قال : ضمت هذه الأيام العشر إلى الأربعة أشهر لأن في العشر ينفخ فيه الروح وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { فإذا بلغن أجلهن } يقول : إذا انقضت عدتها وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب في قوله : { فلا جناح عليكم } يعني أولياءها وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس أنه كره للمتوفى عنها زوجها الطيب والزينة وأخرج مالك وعبد الرزاق وأهل السنن وصححه الترمذي والحاكم عن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله A تسأل أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة وأن زوجها خرج في طلب أعبد لها أبقوا حتى إذا تطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت : فسألت رسول الله A أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة فقال رسول الله A : نعم فانصرفت حتى إذا كانت في الحجرة أو في المسجد فدعاني أو أمر بي فدعيت فقال : كيف قلت ؟ قالت : فرددت إليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت : فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به