لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وإقامة الحجج البينات ولم يكن لذلك تأثير فيمن أرسل إليهم دعا عليهم بعد أن بين سبب إصرارهم على الكفر وتمسكهم بالجحود والعناد فقال مبينا للسبب أولا : 88 - { ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا } قد تقدم أن الملأ هم الأشراف والزينة : اسم لكل ما يتزين به من ملبوس ومركوب وحلية وفراش وسلاح وغير ذلك ثم كرر النداء للتأكيد فقال : { ربنا ليضلوا عن سبيلك } .
وقد اختلف في هذه اللام الداخلة على الفعل فقال الخليل وسيبويه : إنها لام العاقبة والصيرورة والمعنى : أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال صار كأنه سبحانه أعطاهم ما أعطاهم من النعم ليضلوا فتكون اللام على هذا متعلقة بآتيت وقيل إنها لام كي : أي أعطيتهم لكي يضلوا وقال قوم : إن المعنى أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا فحذفت لا كما قال سبحانه : { يبين الله لكم أن تضلوا } قال النحاس : ظاهر هذا الجواب حسن إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن فموه صاحب هذا التأويل بالاستدلال بقوله : { يبين الله لكم أن تضلوا } وقيل : اللام للدعاء عليهم والمعنى : ابتلهم بالهلاك عن سبيلك واستدل هذا القائل بقوله سبحانه بعد هذا : { اطمس } { واشدد } وقد أطال صاحب الكشاف في تقرير هذا بما لا طائل تحته والقول الأول هو الأولى وقرأ الكوفيون { ليضلوا } بضم حرف المضارعة : أي يوقعوا الإضلال على غيرهم وقرأ الباقون بالفتح : أي يضلون في أنفسهم { ربنا اطمس على أموالهم } قال الزجاج : طمس الشيء إذهابه عن صورته والمعنى : الدعاء عليهم بأن يمحق الله أموالهم ويهلكها وقرئ بضم الميم عن اطمس { واشدد على قلوبهم } أي اجعلها قاسية مطبوعة لا تقبل الحق ولا تنشرح للإيمان قوله : { فلا يؤمنوا } قال المبرد والزجاج : هو معطوف على ليضلوا والمعنى : آتيتهم النعم ليضلوا ولا يؤمنوا ويكون ما بين المعطوف والمعطوف عليه اعتراضا وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة : هو دعاء بلفظ النهي والتقدير : اللهم فلا يؤمنوا ومنه قول الأعشى : .
( فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم ) .
وقال الأخفش : إنه جواب الأمر : أي اطمس واشدد فلا يؤمنوا فيكون منصوبا وروي هذا عن الفراء أيضا ومنه : .
( يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا ) .
{ حتى يروا العذاب الأليم } أي لا يحصل منهم الإيمان إلا مع المعاينة لما يعذبهم الله به وعند ذلك لا ينفع إيمانهم وقد استشكل بعض أهل العلم ما في هذه الآية من الدعاء على هؤلاء وقال : إن الرسل إنما تطلب هداية قومهم وإيمانهم وأجيب بأنه لا يجوز لنبي أن يدعو على قومه إلا بإذن الله سبحانه وإنما يأذن الله بذلك لعلمه بأنه ليس فيهم من يؤمن ولهذا لما أعلم الله نوحا عليه السلام بأنه لا يؤمن من قومه إلا من قد آمن قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا }