349 - ـ فصل : العاقل من تأمل الأمور و رعاها .
من الغلط العظيم أن يتكلم في حق معزول بما لا يصلح فإنه لا يؤمن أن يلي فينتقم .
و في الجملة لا ينبغي أن يظهر العداوة لأحد أصلا فقد يرفع المحتقر و قد يتمكن من لا يعد بل ينبغي أن يكتم ما في النفوس من ضغن على الأعداء .
فأن أمكن الإنتقام منهم كان العفو انتقاما لأنه يذلهم .
و ينبغي أن يحسن إلى كل أحد خصوصا من يجوز أن يكون له ولاية و أن يخدم المعزول فربما نفع في ولايته .
و قد روينا أن رجلا إستأذن على قاضي القضاة ابن أبي داؤد و قال : قولوا له : أبو جعفر بالباب .
فلما سمع هش لذلك و قال : ائذنوا له .
فدخل فقام و تلقاه و أكرمه و أعطاه خمسة آلاف و ودعه .
فقيل له : رجل من العوام فعلت به هذا ؟ .
قال : إني كنت فقيرا و كان هذا صديقا فجئته يوما فقلت له : أنا جائع .
فقال : اجلس و خرج فجاء بشواء و حلوى و خبز فقال : كل .
فقلت : كل معي قال : لا قلت : و الله لا آكل حتى تأكل معي فأكل فجعل الدم يجري من فمه .
فقلت : ما هذا فقال : مرض .
فقلت : و الله لا بد أن تخبرني .
فقال : إنك لما جئتني لم أكن أملك شيئا .
و كانت أسناني مضببة بشريط من ذهب فنزعنه و اشتريت به .
فهلا أكافئ مثل هذا ؟ .
و على عكس هذه الأشياء كان ابن الزيات وزير الواثق و كان يضع من المتوكل فلما ولي عذبه بأنواع العذاب .
و كذلك ابن الجزري كان لا يوقر المسترشد قبل الولاية فجرت عليه الآفات لما ولي فالعاقل من تأمل العواقب و رعاها .
و صور كل ما يجوز أن يقع فعمل بمقتضى الحزم .
و أبلغ من هذا تصوير وجود الموت عاجلا لأنه يجوز أن يأتي بغتة من غير مرض .
فالحازم من إستعد له و عمل عمل من لا يندم إذا جاءه .
و حذر من الذنوب فإنها كعدو مراصد بالجزاء .
و إدخر لنفسه صالح الأعمال فإنها كصديق صديق ينفع وقت الشدة .
و أبلغ من كل شيء أن يعلم المؤمن أنه كلما زاد عمله في الفضائل علت مرتبته في الجنة و إن نقص نقصت .
فهو و أن دخل الجنة في نقص بالإضافة إلى كمال غيره غير أنه قد رضي به و لا يشعر بذلك .
فرحم الله من تلمح العواقب و عمل بمقتضى التلمح و الله تعالى الموفق