295 - ـ فصل : و من يتق الله يجعل له مخرجا .
من العجيب سلامة دين ذي العيال إذا ضاق به الكسب فما مثله إلا كمثل الماء إذا ضرب في وجهه سكر فإنه يعمل باطنا و يبالغ حتى يفتح فتحة .
فكذلك صاحب العيال إذا ضاق به الأمر لا يزال يحتال فإذا لم يقدر على الحلال ترخص في تناول الشهيات فإن ضعف دينه مد يده إلى الحرام .
فالمؤمن إذا علم ضعفه عن الكسب إجتهد في التعفف عن النكاح و تقليل النفقة إذا حصل الأولاد و القناعة باليسير .
فأما من ليس له كسب كالعلماء و المتزهدين فسلامتهم ظريفة إذ قد إنقطعت موارد السلاطين عنهم و مراعاة العوام لهم فإذا كثرت عائلتهم لم يؤمن عليهم شر ما يجري على الجهال .
فمن قدر منهم على كسب بالنسخ و غيره فليجتهد فيه مع تقليل النفقة و القناعة باليسير .
فإنه من ترخص منهم اليوم أكل الحرام لأنه يأخذ من الظلمة خصوصا بحجة التنمس و التزهد .
و من كان له منهم مال فليجتهد في تنميته و حفظه فما بقي من يؤثر و لا من يقرض .
و قد صار الجمهور بل الكل كأنهم يعبدون المال فمن حفظه حفظ دينه .
و لا يلتفت إلى قول الجهلة الذين يأمرون بإخراج المال فما هدا وقته .
و اعلم أنه إذا لم يجتمع الهم لم يحصل العلم و لا العمل و لا التشاغل بالفكر في عظمة الله .
و قد كان هم القدماء يجتمع بأشياء جمهورها أنه كان لهم من بيت المال نصيب في كل عام .
و كان يصلهم فيفضل عنهم .
و فيهم من كان له مال يتجر به كسعيد بن المسيب و سفيان و ابن المبارك و كان همه مجتمعا و قد قال سفيان في ماله : [ لو لاك لتمندلوا بي ! ] .
و فقدت بضاعة [ لا بن المبارك ] فبكى و قال : [ هو قوام ديني ] .
و كان جماعة يسكنون إلى عطاء الإخوان الذين لا يمنون .
و كان ابن المبارك يبعث إلى الفضل و غيره و كان الليث بن سعد يتفقد الأكابر فبعث إلى مالك ألف دينار و إلى ابن لهيعة ألف دينار و أعطى منصور بن عمار ألف دينار و جارية بثلاثمائة دينار .
و ما زال الزمان على هذا إلى أن آل الأمر إلى إنمحاق ذلك فقلت عطايا السلاطين و قل من يؤثر من الإخوان .
إلا أنه كان في ذلك القليل ما يدفع الزمان .
فأما زماننا هذا فقد إنقبضت الأيدي كلها حتى قل من يخرج الزكاة الواجبة فكيف يجتمع هم من يريد من العلماء و الزهاد أن يعمل همه ليلا و نهارا في وجوه الكسب و ليس من شأنه هذا و لا يهتدي له .
فقد رأينا الأمر أخرج إلى التعرض للسلاطين و الترخص في أخذ ما لا يصلح و أخرج المتزهدين إلى التصنع لتحصيل الدنيا .
فالله الله يا من يريد حفظ دينه قد كررت عليك الوصية بتقليل جهدك و خفف العلائق مهما أمكنك و إحتفظ بدرهم يكون معك فإنه دينك و إفهم ما قد شرحته فإن ضجت النفس لمراداتها فقل لها : إن كان عندك إيمان فأصبري و إن أردت التحصيل لما يفنى ببذل الدين فما ينفعك .
فتفكري في العلماء الذين جمعوا المال من غير و جهه و في المنمسين ذهب دينهم و زالت دنياهم .
تفكري في العلماء الصادقين كأحمد و بشر إندفعت الأيام و بقي لهم حسن الذكر .
و في الجملة { و من يتق الله يجعل له مخرجا * و يرزقه من حيث لا يحتسب } .
و رزق الله قد يكون بتيسير الصبر على البلاء و الأيام تندفع .
و عاقبة الصبر الجميل جميلة