263 - ـ فصل : البعد عمن كان همه الدنيا .
هيهات أن يجتمع الهم مع التلبس بأمور الدنيا خصوصا الشاب الفقير الذي قد ألف الفقر .
فإنه إذا تزوج و ليس له شيء من الدنيا إهتم بالكسب أو بالطلب من الناس فتشتتت همته و جاءه الأولاد فزاد الأمر عليه و لا يزال يرخص لنفسه فيما يحصل إلى أن يتلبس بالحرام .
و من يفكر فهمته ما يأكل و ما يأكله أهله ما ترضى به الزوجة من النفقة و الكسوة و ليس له ذلك فأي قلب يحضر له ؟ و أي هم يجتمع ؟ هيهات .
و الله لا يجتمع الهم و العين تنظر إلى الناس و السمع يسمع حديثهم و اللسان يخاطبهم و القلب متوزع في تحصيل ما لا بد منه .
فإن قال قائل : فكيف أصنع ؟ .
قلت : إن وجدت ما يكفيك من الدنيا أو معيشة تكفك فاقنع بها و إنفرد في خلوة عن الخلق مهما قدرت و إن تزوجت فبفقيرة تقنع باليسير و تصبر أنت على صورتها و فقرها و لا تترك نفسك تطمح إلى من تحتاج إلى فضل نفقته .
فإن رزقت إمرأة صالحة جمعت همك فذاك و إن لم تقدر فمعالجة الصبر أصلح لك من المخاطرة .
و إياك و المستحسنات فإن صاحبهن إذا سلم كعابد صنم و إذا حصل بيدك شيء فأنفق بعض فبحفظ الباقي تحفظ شتات قلبك .
و إحذر كل الحذر من هذا الزمان و أهله فما بقي مواس و لا مؤثر و لا من يهتم لسد خلة و لا من لو سئل أعطى إلا أن يعطي نذرا بتضجر .
و منة يستعبد بها المعطى بقية العمر و يستثقله كلما رآه أو يستدعي بها خدمته له و التردد إليه .
و إنما كان في الزمان الماضي مثل أبي عمرو بن نجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يوما على المنبر : علي ألف دينار و قد ضاق صدري .
فمضى أبو عمرو إليه في الليل بألف دينار و قال إقض دينك .
فلما عاد و صعد المنبر قال : نشكر الله لأبي عمرو فإنه أراح قلبي و قضى ديني .
فقام أبو عمرو فقال : أيها الشيخ ذلك المال كان لوالدتي و قد شق عليها ما فعلت فإن رأيت أن تتقدم برده فإفعل .
فلما كان في الليل عاد إليه و قال له : لماذا شهرتني بين الناس ؟ .
فأنا ما فعلت لأجل الخلق فخذه و لا تذكرني : .
( ماتوا و غيب في التراب شخوصهم ... و النشر مسك و العظام رميم ) .
فالبعد البعد عن من همته الدنيا فإن زادهم اليوم إلى أن يحصل أقرب منه إلى أن يؤثر .
و لا تكاد ترى إلا عدوا في الباطن صديقا في الظاهر شامتا على الضر حسودا على النعمة .
فاشتر العزلة بما بيعت فإن من له قلب إذا مشى في الأسواق و عاد إلى منزله تغير قلبه .
فكيف إن عرقله بالميل إلى أسباب الدنيا و اجتهد في جمع الهم بالبعد عن الخلق ليخلو القلب بالتفكر في المآب و تتلمح عين البصيرة خيم الرحيل ؟