198 - فصل : هل يرد الاعتراض الأقدار ؟ .
رأيت كثيرا من المغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار و فيهم من قل إيمانه فأخذ يعترض .
و فيهم من خرج إلى الكفر و رأى أن ما يجري كالعبث و قال ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد و الابتلاء ممن هو غني عن أذانا ؟ .
فقلت لبعض من كان يرمز إلى هذا : إن حضر عقلك و قلبك حدثتك .
و إن كنت تتكلم بمجرد واقعك من غير نظر و إنصاف فالحديث معك ضائع .
ويحك أحضر عقلك و اسمع ما أقول : .
أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك و للمالك أن يتصرف كيف يشاء ؟ .
أليس قد ثبت أنه حكيم و الحكيم لا يعبث ؟ .
و أنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئا فإنه قد سمعنا عن جالينوس أنه قال : ما أدري ؟ أحكيم هو أم لا .
و السبب في قوله هذا أنه رأى نقضا بعد إحكام فقاس الحال على أحوال الخلق و هو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى فليس بحكيم .
و جوابه لو كان حاضرا أن يقال : بماذا بان لك أن النقص ليس بحكمة ؟ .
أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك ؟ .
و كيف يهب لك الذهن الكامل و يفوته هو الكمال ؟ .
و هذه هي المحنة التي جرت لإبليس فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله فلو تفكر على أن واهب العقل أعلى من العقل و أن حكمته أوفى من كل حكيم لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول .
فهذا إذا تأمله المصنف زال عنه الشك .
و قد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى : { أم له البنات و لكم البنون } .
أي أجعل لنفسه الناقصات و أعطاكم الكاملين ؟ .
فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى نفسنا .
و نقول هذا فعل عالم حكيم و لكن ما يبين لنا معناه .
و ليس هذا بعجب فإن موسى عليه السلام خفي عليه وجه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة و قتل الغلام الجميل فلما بين له الخضر وجه الحكمة أذعن فلنكن مع الخالق كموسى مع الخضر .
أو لسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام النظيف الظريف يقطع و يمضغ و يصير إلى ما نعلم و لسنا نملك ترك تلك الأفعال و لا ننكر الإفساد له لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه .
فما المانع أن يكون فعل الحق سبحانه له باطن لا نعلمه ؟ .
و من أجل الجهال العبد المملوك إذا طلب أن يطلع على سر مولاه فإن فرضه التسليم لا الاعتراض .
و لو لم يكن في الابتلاء بما تنكره الطباع إلا أن يقصد إذعان العقل و تسليمه لكفي .
و لقد تأملت حالة عجيبة يجوز أن يكون المقصود بالموت هي و ذلك أن الخالق سبحانه في غيب لا يدركه الإحساس .
فلو أنه لم ينقض هذه البنية لتخايل للإنسان أنه صنع لا بصانع .
فإذا وقع الموت عرفت النفس نفسها التي كانت لا تعرفها لكونها في الجسد و تدرك عجائب الأمور بعد رحيلها .
فإذا ردت إلى البدن عرفت ضرورة أنها مخلوقة لمن أعادها .
و تذكرت حالها في الدنيا ـ الأفكار تعاد كما تعاد الأبدان ـ فيقول قائلهم { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } .
و متى رأيت ما قد وعدت به من أمور الآخرة أيقنت يقينا لا شك معه .
و لا يحصل هذا بإعادة ميت سواها و إنما يحصل برؤية هذا الأمر فيها .
فتبني بنية تقبل البقاء و تسكن جنة لا ينقضي دوامها .
فيصلح بذلك اليقين أن تجاور الحق لأنها آمنت بما وعد و صبرت بما ابتلى و سلمت لأقداره فلم تعترض و رأت في غيرها العبر ثم في نفسها فهذه هي التي يقال لها : { ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * و ادخلي جنتي } .
فأما الشاك و الكافر فيحق لهما الدخول إلى النار و اللبث فيها لأنهما رأيا الأدلة و لم يستفيدا و نازعا الحكيم و اعترضا عليه فعاد شؤم كفرهما يطمس قلوبهما فبقيت على ما كانت عليه .
فلما لم تنتفع بالدليل في الدنيا لم تنتفع بالموت و الإعادة و دليل بقاء الخبث في القلوب قوله تعالى : { و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } .
فنسأل الله D عقلا مسلما يقف على حده و لا يعترض على خالقه و موجده .
ثم الويل للمعترض أيرد اعتراضه الأقدار ؟ .
فما يستفيد إلا الخزي نعوذ بالله ممن خذل