170 - ـ فصل : نية المؤمن ابلغ من عمله .
و ما ابتلى الإنسان قط بأعظم من علو همته فإن من علت همته يختار المعالي .
و ربما لا يساعده الزمان وقد تضعف الآلة فيبقى في عذاب .
و إني أعطيت من علو الهمة طرفا فأنا به في عذاب و لا أقول ليته لم يكن فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل و العاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل .
و لقد رأيت أقواما يصفون علو هممهم فتأملتها بها في فن واحد و لا يبالون بالنقص فيما هو اهم قال الرضي : .
( و لكل جسم في ... النحول بلية و بلاء جسمي من تفاوت همتي ) .
فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة .
و كان ابو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام فقيل له في ذلك فقال : ذهن صاف و هم بعيد و نفس تتوق إلى معالي الأمور مع عيش كعيش الهمج الرعاع .
قيل : فما الذي يبرد غليلك ؟ قال : الظفر بالملك .
قيل : فاطلبه قال لا يطلب إلا بالأهوال .
قيل : فاركب الأهوال قال : العقل مانع .
قيل : فما تصنع ؟ قال : سأجعل من عقلي جهلا و أحاول به خدرا لا ينال إلا بالجهل .
و أدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به فإن الخمول أخو العدم .
فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات و هو جانب الآخرة و انتصب في طلب الولايات فكم فتك و قتل ؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا .
ثم لم يتنعم في ذكل غير ثمان سنين .
ثم اغتيل و نسى تدبير العقل فقتل و مضى إلى الآخرة على أقبح حال .
و كان المتنبي يقول : .
( و في الناس من يرضى بميسور عيشه ... و مركوبه رجلاه و الثوب جلده ) .
( و لكن قلبا ـ بين جنبي ـ ماله ... مدى ينتهي بي في مراد أحده ) .
( يرى جسمه يكسي شفوفا تربه ... فيختار أن يكسي دروعا تهده ) .
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب .
و نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا و ذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه لأني أحب نيل كل العلوم على إختلاف فنونها .
و أريد إستقصاء كل فن هذا أمر يعجز العمر عن بعضه .
فإن عرض لي ذو همة في فن بلغ منتهاه رأيته ناقصا في غيره فلا أعد همته تامة .
مثل المحدث فاته الفقه و الفقيه فاته علم الحديث فلا أرضى بنقصان من العلوم إلا حادثا عن نقص الهمة .
ثم أني أروم نهاية العمل بالعلم فأتوق إلى ورع بشر و زهادة معروف و هذا مع مطالعة التصانيف و إفادة الخلف و معاشرتهم بعيد .
ثم إني أروم الغنى عن الخلق و أستشرف الإفضال عليهم و الإشتغال بالعلم مانع من الكسب و قبول المنن مما تأباه الهمة العالية .
ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد كما أتوق إلى تحقيق التصاميم لبقى الخلفان نائبين عني بعد التلف و في طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد .
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات و في ذلك إمتناع من جهة قلة المال ثم لو حصل فرق جمع الهمة .
و كذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم و المشارب فإنه متعود للترفه و اللطف و في قلة المال مانع و كل ذلك جمع بين أضداد .
فأين أنا و ما و صفته من حال من كانت غاية همته الدنيا ؟ و أنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب و لا أن يؤثر في علمي و لا في عملي .
فواقلقي من طلب قيام الليل و تحقيق الورع مع إعادة العلم و شغل القلب بالتصانيف و تحصيل ما يلائم البدن من المطاعم .
و وا أسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس و تعليمهم .
و يا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة .
غير أني قد إستسلمت لتعذيبي و لعل تهذيبي في تعذيبي لأن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق D .
و ربما كان الحيرة في الطلب دليلا إلى المقصود و ها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة .
و إن بلغ همي مراده و إلا فنية المؤمن أبلغ من عمله