15 - ـ فصل : شرف الغنى و مخاطرة الفقر .
رأيت من أعظم حيل الشيطان و مكره أن يحبط أرباب الأموال بالآمال و التشاغل باللذات القاطعة عن الآخرة و أعمالها .
فإذا شغلهم بالمال ـ تحريضا على جمعه و حثا على تحصيله ـ و أمرهم بحراسته بخلا به .
فذلك من متين حيله و قوي مكره ثم دفن في هذا الأمر من دقائق الحيل الخفية أن خوف من جمعه المؤمنين فنقر طالب الآخرة منه و بادر التائب بأن يخرج ما في يده .
و لا يزال الشيطان يحرضه على الزهد و يأمره بالترك و يخوفه من طرقات الكسب إظهارا لنصحه و حفظ دينه و في خفايا ذلك عجائب من مكره .
و ربما تكلم الشطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب فيقول له : اخرج من مالك و ادخل في زمرة الزهاد .
و متى لك غداء أو عشاء فلست من أهل الزهد فلا تنال مراتب العزم .
و ربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة الواردة على سبب و لمعنى .
فإذا أخرج ما في يده و تعطل عن مكاسبه عاد يعلق طعمه بصلة الإخوان أو يحسن عنده صحبة السلطان لأنه لا يقوى على طريق الزهد و الترك إلا أياما ثم يعود فيقاضى مطلوباته فيقع في أقبح مما فر منه .
و يبذل أول السلع في التحصيل دينه و عرضه و يصير متمبدلابه و يقف في مقام اليد السفلى .
و لو أنه نظر في سير الرجال و نبلائهم و تأمل صحاح الأحاديث عن رؤسائهم لعلم أن الخليل عليه الصلاة و السلام كان كثير المال حتى ضاقت بلدته بمواشيه .
و كذلك لوط عليه الصلاة و السلام [ و كثير من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ] و الجم الغفير من الصحابة و إنما صبروا عند العدم و لم يمتنعوا من كسب ما يصلحهم و لا من تناول المباح عند الوجود .
و كان أبو بكر Bه يخرج للتجارة و الرسول صلى الله عليه و سلم حي .
و كان أكثرهم يخرج فاضل ما يأخذ من بيت المال و يسلم من ذل الحاجة إلى الأخوان و قد كان ابن عمر لا يرد شيئا و لا يسأله .
و إني تأملت على أكثر أهل الدين و العلم هذه الحال فوجدت العلم شغلهم عن المكاسب في بداياتهم فلما احتاجوا إلى قوم نفوسهم ذلوا و هم أحق بالعز .
و قد كانوا قديما يكفيهم من بيت المال فضلا عن الإخوان فلما عدم في هذا الأوان لم يقدر متدين على شيء إلا يبذل شيء من دينه و ليته قدر فربما تلف الدين و لم يحصل له شيء فالواجب على العاقل أن يحفظ ما معه و أن يجتهد في الكسب ليربح مداراة ظالم أو مداهنة جاهل و لا يلتفت إلى ترهات المتصوفة الذين يدعون في الفقر ما يدعون .
فما الفقر إلا مرض العجز و للصابر على الفقر ثواب الصابر على المرض اللهم إلا أن يكون جبانا عن التصرف مقتنعا بالكفاف فليس ذلك من مراتب الأبطال بل هو من مقامات الجبناء الزهاد .
و أما الكاسب ليكون المعطي لا المعطى و المتصدق لا المتصدق عليه فهي من مراتب الشجعان الفضلاء و من تأمل هذا علم شرف الغنى و مخاطرة الفقر