123 - ـ فصل : خطر الإشتغل بعلم الكلام دون علم .
قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم فارتقوا منابر التذكير للعوام فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون : ليس الله في الأرض كلام و هل المصحف إلا ورق و عفص و زاج و إن الله ليس في السماء و إن الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه و سلم : [ أين الله ؟ ] كانت خرساء فأشارت إلى السماء أي ليس هو من الأصنام التي تعبد في الأرض ثم يقولون : أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف و صوت هذا عبارة جبريل .
فلما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام و صار أحدهم يسمع فيقول هذا هو الصحيح و إلا فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس .
فشكا إلى جماعة من أهل السنة فقلت لهم : إصبروا فلا بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الأوقات و إن كانت مدموغة و للباطل جولة و للحق صولة و الدجالون كثر و لا يخلو بلد ممن يضرب البهرج على مثل سكة السلطان .
قال قائل : فما جوابنا عن قولهم ؟ قلت : إعلم ـ و فقك الله تعالى ـ أن الله D و رسوله صلى الله عليه و سلم قنعا من الخلق بالإيمان بالجمل و لم يكلفهم معرفة التفاصيل إما لأن الإطلاع على التفاصيل يخبط العقائد و إما لأن قوى البشر تعجز عن مطالعة ذلك .
فأول ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم إثبات الخالق و نزل عليه القرآن بالدليل على وجود الخالق بالنظر في صنعه فقال تعالى : { أمن جعل الأرض قرارا و جعل خلالها أنهارا } .
و قال تعالى : { و في أنفسكم أفلا تبصرون } .
و ما زال يستدل على و جوده بمخلوقاته و على قدرته بمصنوعاته ثم أثبت نبوة نبيه بمعجزاته و كان من أعظمها القرآن الذي جاء به فعجز الخلائق عن مثله و إكتفى بهذه الأدلة جماعة من الصحابة و مضى على ذلك القرآن الأول و المشرب صاف لم يتكدر و علم الله D ما سيكون من البدع فبالغ في إثبات الدلة وملأ بها القرآن .
و لما كان القرآن هو منبع العلوم و أكبر المعجزات للرسول أكد الأمر فيه فقال تعالى { و هذا كتاب أنزلناه مبارك } { و ننزل من القرآن ما هو شفاء } .
فأخبر أنه كلامه بقوله تعالى : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } .
و أخبر أنه مسموع بقوله تعالى : { حتى يسمع كلام الله } .
و أخبر أنه محفوظ فقال تعالى : { في لوح محفوظ } .
و قال تعالى : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } .
و أخبر أنه مكتوب و متلو فقال تعالى : { و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك } .
إلى ما يطول شرحه من تعدد الآيات في هذه المعاني التي توجب إثبات القرآن .
ثم نزه نبيه صلى الله عليه و سلم عن أن يكون أتى من قبل نفسه فقال تعالى : { أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك } .
و تواعده لو فعل فقال تعالى : { و لو تقول علينا بعض الأقاويل } .
و قال في حق الزاعم إنه كلام الخلق حين قال : { إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر } .
و لما عذب كل أمة بنوع عذاب تولاه بعض الملائكة كصيحة جبريل عليه السلام بثمود و إرسال الريح على عاد و الخسف بقارون و قلب جبريل ديار قوم لوط عليه السلام و إرسال الطير الأبابيل على من قصد تخريب الكعبة .
و تولى هو بنفسه عقاب المكذبين بالقرآن فقال تعالى : { ذرني و من يكذب بهذا الحديث } { ذرني و من خلقت وحيدا } .
و هذا لأنه أصل هذه الشرائع و المثبت لكل شريعة تقدمت فإن جميع الملل ليس عندهم ما يدل على صحة ما كانوا فيه إلا كتابنا لأن كتبهم غيرت و بدلت .
و قد علم كل ذي عقل أن القائل : { إن هذا إلا قول البشر } إنما أشار إلى ما سمعه .
و لا يختلف أولو الألباب وأهل الفهم للخطاب أن قوله { و إنه } كناية عن القرآن و قوله : { نزل به } كناية أيضا عنه و قوله : { هذا كتاب } إشارة إلى حاضر .
و هذا أمر مستقر لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة رضوان الله عليهم ثم دس الشيطان دسائس البدع فقال قوم : هذا المشار إليه مخلوق فثبت الإمام أحمد C ثبوتا لم يثبته غيره على دفع هذا القول لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه في النفوس و يخرجه عن الإضافة إلى الله D .
و رأى أن إبتداع ما لم يقل فيه لا يجوز إستعماله فقال : كيف أقول ما لم يقل .
ثم لم يختلف الناس في غير ذلك إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الأشعري فقال مرة بقول المعتزلة ثم عن له فإدعى أن الكلام صفة قائمه بالنفس فأوجبت دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق .
و زادت فخبطت العقائد تعالى فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم .
و الكلام في هذه المسألة مرتب بذكر الحجج و الشبه في كتب الأصول فلا أطيل به ههنا بل أذكر لك جملة تكفي من أراد الله هداه و هو أن الشرع قنع منا بالإيمان جملة و بتعظيم الظواهر و نهى عن الخوض فيما يتير غبار شبهة و لا تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم .
و إذا كان قد نهى عن الخوض في القدر فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر ؟ .
و ما ذاك إلا لأحد الأمرين اللذين ذكرتهما إما لخوف إثارة شبهة تزلزل العقائد أو لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق .
فإذا كانت ظواهر القرآن تثبت و جود القرآن فقال قائل : ليس ههنا قرآن فقد رد الظواهر التي تعب الرسول صلى الله عليه و سلم في إثباتها و قرر و جودها في النفوس .
و بماذا يحل و يحرم و يبت و يقطع و ليس عندنا من الله تعالى تقدم بشيء .
و هل للمخالف دليل إلا أن يقول : قال الله فيعود فيثبت ما نفى ؟ .
فليس الصواب لمن وفق إلا الوقوف مع ظاهر الشرع فإن إعترضه ذو شبهة فقال : هذا صوتك و هذا خطك فأين القرآن ؟ فليقل له : قد أجمعنا أنا و أنت على وجود شيء به نحتج جميعا .
و كما أنك تنكر على أن أثبت شيئا لا يتحقق لي إثباته حسا فأنا أنكر عليك كيف تنفي وجود شيء قد ثبت شرعا .
و أما قولهم : هل في المصحف إلا ورق و عفص و زاج فهذا كقول القائل : هل الآدمي إلا لحم و دم ؟ .
هيهات أن معنى الآدمي هو الروح فمن نظر إلى اللحم و الدم و قف مع الحس .
فإن قال : فكذا أقول إن المكتوب غير الكتابة : قلنا له : و هذا مما ننكره عليك لأنه لا يثبت تحقيق هذا لك و لا لخصمك فإن أردت بالكتابة الحبر و تخطيطه فهذا ليس هو القرآن و إن أردت المعنى القائم بذلك فهذا ليس هو الكتابة .
و هذه الأشياء لا يصلح الخوض فيها فإن ما دونها لا يمكن تحقيقه على التفصيل كالروح مثلا فإنا نعلم وجودها في الجملة فأما حقيقتها فلا .
فإذا جهلنا حقائقها كنا لصفات الحق أجهل فوجب الوقوف مع السمعيات مع نفي ما لا يليق لأن الخوض يزيد الخائض تخبيطا و لا يفيده تحصيلا بل يوجب عليه نفي ما يثبت بالسمع من غير تحقيق أمر عقلي فلا وجه للسلامة إلا طريق السلف و السلام .
و كذلك أقول إن إثبات الإله بظواهر الآيات و السنن ألزم للعوام من تحديثهم بالتنزيه و إن كان التنزبه لازما .
و قد كان ابن عقيل يقول : [ الأصلح فعتقاد العوام ظواهر الآي و السنن لأنهم يأنسون بالإثبات فمتى محونا ذلك من قولبهم زالت السياسات و الحشمة ] .
و تهافت العوام في الشبهة أحب إلي من إغراقهم في التنزيه لأن التشبيه يغمسهم في الإثبات فيطمعوا و يخافوا شيئا قد أنسوا إلى ما يخاف مثله و يرجى .
فالتنزيه يرمي بهم إلى النفي و لا طمع و لا مخافة من النفي .
و من تدبر الشريعة رآها عامة للمكلفين في التشبيه بالألفاظ التي لا يعطي ظاهرها سواه كقول الأعرابي : أو يضحك ربنا ؟ قال : نعم فلم يكفر من هذا القول