101 - ـ فصل : اليد العليا خير من اليد السفلى .
إجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم له بمقتضى العقل و الشرع .
فمن ذلك حفظ ماله و طلب تنميته و الرغبة في زيادته لأن سبب بقاء الإنسان ماله فقد نهى عن التبذير فيه فقيل له : { و لا تؤتوا السفهاء أموالكم } فأعلم أنه سبب لبقائه { التي جعل الله لكم قياما } أي أقواما لمعاشكم .
و قال D : { و لا تبسطها كل البسط } .
و قال تعالى : { و لا تبذر تبذيرا } و قال تعالى : { لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما } .
و من فضيلة المال أن الله تعالى قال : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } و قال تعالى : { و أنفقوا في سبيل الله } .
و قال تعالى : { ينفقون أموالهم } .
و قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح } .
و جعل المال نعمة و زكاته تطهيرا فقال تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها } .
و قال صلى الله عليه و سلم [ نعم المال الصالح للرجل الصالح ] .
و قال : [ ما نفعني مال كمال أبي بكر ] .
و كان أبو بكر Bه يخرج إلى التجارة و يترك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا ينهاه عن ذلك .
و قال عمر بن الخطاب Bه : [ لأن أموت بين شعبتي جبل أطلب كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازيا في سبيل الله ] .
و كان جماعة من الصحابة Bهم يتاجرون و من سادات التابعين سعيد بن المسيب مات و خلف مالا و كان يحتكر الزيت .
و ما زال السلف على هذا .
ثم قد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بدا من الإحتيال في طلبه فيبذل عرضه أو دينه .
ثم للنفس قوة بدنية عند وجود المال و هو معدود عند االأطباء من الأدوية .
حكمة وضعها الواضع .
ثم نبغ أقوام طلبوا طريق الراحة فادعوا أنهم متوكلة و قالوا : نحن لا نمسك شيئا و لا نتزود لسفر و رزق الأبدان يأتي .
و هذا على مضادة الشرع فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن إضاعة المال .
و موسى عليه السلام لما سافر في طلب الخضر تزود .
و نبينا صلى الله عليه و سلم لما هاجر تزود .
و أبلغ من هذا قوله تعالى : { و تزودوا فإن خير الزاد التقوى } .
ثم يدعي هؤلاء المتصوفة بغض الدنيا فلا يفهمون ما الذي ينبغي أن يبغض .
و يرون زيادة الطلب للمال حرصا و شرها .
و في الجملة إنما إخترعوا بأرائهم طريقا فيها شيء من الرهبانية إذا صدقوا و شيء من البهرجة إذا نصبوا شبك الصيد بالتزهد فسموا ما يصل إليهم من الأرزاق فتوحا .
قال ابن قتيبة في غريب الحديث عند شرح و قوله صلى الله عليه و سلم : [ و اليد العليا ] قال : هي المعطية .
قال : فالمعجب عندي من قوم يقولون هي الأخذة .
و لا أرى هؤلاء القوم إستطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة فأما الشرائع فإنها بريئة من حالهم .
و في الحديث : [ ضاق البلد بمواشي إبراهيم و لوط عليهما السلام فافترقا ] .
و كان شعيب عليه السلام كثير المال ثم قد ند طعمه في زيادة الأجر من موسى عليه السلام فقال : { فإن أتممت عشرا فمن عندك } .
و كان ابن عقيل C يقول : [ من قال إني لا أحب الدنيا فهو كذاب ] .
فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه يامين قال : { هل آمنكم عليه } فقالوا : { و نزداد كيل بعير } فقال : خذوه .
و قال بعض السلف : [ من ادعى بغض الدنيا فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه فإذا ثبت صدقه فهو مجنون ] .
و قد نفر جماعة من المتصوفة خلقا من الخلق عن الكسب و أوحشوا بينهم و بينه و هو دأب الأنبياء و الصالحين .
و إنما طلبوا طريق الراحة و جلسوا على الفتوح فإذا شبعوا رقصوا فإذا إنهضم الطعام أكلوا فإذا لاحت لهم حيلة على غني أوجبوا عليه دعوة إما بسبب شكر أو بسبب إستغفار .
و أطم الطامات إدعاؤهم أن هذا قربة .
و قد إنعقد إجتماع العلماء أن من إدعى الرقص قربه إلى الله تعالى كفر .
فلو أنهم قالوا : مباح كان أقرب حالا و هذا لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع و ليس في الشرع أمر بالرقص و لا ندب إليه .
و لقد بلغني عن جماعة منهم أنهم كانوا يوقدون الشمع في وجوه المردان و ينظرون إليهم فإذا سئلوا عن ذلك سخروا بالسائل فقالوا : نعتبر بخلق الله ! ! ! [ أفتراهم أقوى من النبي صلى الله عليه و سلم حين أجلس الشاب الذي وفد عليه من وراء ظهره و قال هل كانت فتنة داود إلا من النظر ] .
هيهات ! لقد تملك الشيطان تلك الأزمة فقادها إلى ما أراد .
و العجب ممن يذم الدنيا و هو يأكل فيشبع و لا ينظر من أين المطعم .
و ما زال صالحو السلف يفتشون عن المطعم حتى كان إبراهيم بن أدهم يسهر هو و أصحابه و يقولون مع من نعمل غدا ؟ و كان سري السقطي يعرف بطيب الغذاء و له في الورع مقامات فجاء قوم يتسمون بالصوفية يدعون إيباع أولئك السادة و يأكلون من مال فلان و هم يعرفون أصول تلك الأموال و يقولون : رزقنا .
فواعجبا إذا كان الآكل لا يبالي به من أين و لا لديه إمتناع من شهوة و لا تقلل و لا يخلو الرباط من المطبخ و لا ينقطع ليلة و أصله من مال قد عرف من أين هو و الحمام دائر و المعنى يدق بدف فيه جلاجل و رفيقه بالشبابة و سعدي و ليلي في الإنشاد و المردان في السمع ثم يذم الدنيا بعد هذا .
فقولوا لنا : من يتلهى بالناس إلا هؤلاء ؟ و لكن من مرت عليه رزجنتهم فإنه أخس منهم