@ 16 @ .
فالقادر على إيجاد إنسان في أحسن تقويم من هذه العلقة ، قادر على جعلك قارئاً وإن لم تكن تعلم القراءة من قبل ، كما أوجد الإنسان من تلك العلقة ولم يكن موجوداً من قبل ، ولأن الذي يتعهد تلك العلقة حتى تكتمل إنساناً يتعهدها بالرسالة . .
وقد يكون في اختيار الإنسان بالذات وبخصوصه لتفصيل مرحلة وجوده ، أن غيره من المخلوقات لم تعلم مبادىء خلقتها كعلمهم بالإنسان ، ولأن الإنسان قد مر ذكره في السورة قبلها { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ، فبين أنه من هذه العلقة كان في أحسن تقويم ، ومن حسن تقويم إنزال الكتاب القيم . .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن المقام هنا مقام دلالة على وجود اللَّه ، فبدأ بما يعرفونه ويسلمون به للَّه ، ولم يبدأ من النطفة أو التراب ، لأن خلق آدم من تراب لم يشاهدوه ، ولأن النطفة ليست بلازم لها خلق الإنسان ، فقد تقذف في غير رحم كالمحتلم ، وقد تكون فيه ، ولا تكون مخلقة . ا ه . .
وهذا في ذاته وجيه ، ولكن لا يبعد أن يقال : إن السورة في مستهل الوحي وبدايته ، فهي كالذي يقول : إذا كنت بدأت بالوحي إليه ولم يكن من قبل ، ولم يوجد منه شيء بالنسبة إليك ، فليس هو بأكثر من إيجاد الإنسان من علقة ، بعد أن لم يكن شيئاً . .
وعليه يقال : لقد تركت مرحلة النطفة مقابل مرحلة من الوحي ، قد تركت أيضاً وهي فترة الرؤيا الصالحة ، كما في الصحيحين ( أنه صلى الله عليه وسلم كان أول ما بدىء به الوحي الرؤيا الصالحة ، يراها فتأتي كفلق الصبح ) فكان ذلك إرهاصاً للنبوة وتمهيداً لها لمدة ستة أشهر ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : ( الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح ، أو ترى له جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة ) وهي نسبة نصف السنة من ثلاث وعشرين مدة الوحي ، ولكن الرؤيا الصالحة قد يراها الرجل الصالح ، ومثل ذلك تماماً فترة النطفة ، فقد تكون النطفة ولا يكون الإنسان ، كما تكون الرؤيا ولا تكون النبوة ، أما العلقة فلا تكون إلا في رحم وقرار مكين ، ومن ثم يأتي الإنسان مخلقاً كاملاً ، أو غير مخلق على ما يقدر له . .
فلما كانت فترة النطفة ليست بلازمة لخلق الإنسان ، وكان مثلها فترة الرؤية ليست لازمة للنبوة ترك كل منها مقابل الآخر ، ويبدأ الدليل بما هو الواقع المسلم على أن الله تعالى هو الخالق ، والخالق للإنسان من علقة ، فكان فيه إقامة الدليل من ذاتية المستدل ،