وقد سبق بيان كثير منه في ضمن النوعين قبله .
شدد قوم في الرواية فأفرطوا وتساهل فيها آخرون ففرطوا .
ومن مذاهب التشديد مذهب من قال : لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه وتذكره وذلك مروي عن ( مالك ) و ( أبي حنيفة ) Bهما . وذهب إليه من أصحاب الشافعي ( أبو بكر الصيدلاني المروزي ) .
ومنها مذهب من أجاز الاعتماد في الرواية على كتابه غير أنه لو أعار كتابه وأخرجه من يده لم ير الرواية منه لغيبته عنه .
وقد سبقت حكايتنا لمذاهب عن أهل التساهل وإبطالها في ضمن ما تقدم من شرح وجوه الأخذ والتحمل .
ومن أهل التساهل قوم سمعوا كتبا مصنفة وتهاونوا حتى إذا طعنوا في السن واحتيج إليهم حملهم الجهل والشره على أن رووها من نسخ مشتراة أو مستعارة ( 120 ) غير مقابلة فعدهم ( الحاكم أبو عبد الله الحافظ ) في طبقات المجروحين . قال : وهم يتوهمون أنهم في روايتها صادقون . وقال : هذا مما كثر في الناس وتعاطاه قوم من أكابر العلماء والمعروفين بالصلاح .
قلت : ومن المتساهلين عبد الله بن لهيعة المصري ترك الاحتجاج بروايته مع جلالته لتساهله . ذكر عن ( يحيى بن حسان ) : أنه رأى قوما معهم جزء سمعوه من ( ابن لهيعة ) فنظر فيه فإذا ليس فيه حديث واحد من حديث ( ابن لهيعة ) فجاء إلى ( ابن لهيعة ) فأخبره بذلك . فقال : ما أصنع ؟ يجيئوني بكتاب فيقولون : هذا من حديثك فأحدثهم به .
ومثل هذا واقع من شيوخ زماننا يجيء إلى أحدهم الطالب بجزء أو كتاب فيقول : هذا روايتك فيمكنه من قراءته عليه مقلدا له من غير أن يبحث بحيث يحصل له الثقة بصحة ذلك .
والصواب : ما عليه الجمهور وهو التوسط بين الإفراط والتفريط . فإذا قام الراوي في الأخذ والتحمل بالشرط الذي تقدم شرحه وقابل كتابه وضبط سماعه على الوجه الذي سبق ذكره جازت له الرواية منه وإن أعاره وغاب عنه : إذا كان الغالب من أمره سلامته من التبديل والتغيير لا سيما إذا كان ممن لا يخفى عليه - في الغالب - لو غير شيء منه وبدل - تغييره وتبديله وذلك لأن الاعتماد في باب الرواية على غالب الظن فإذا حصل أجزأ ولم يشترط مزيد عليه والله أعلم