اعلم أن مفهوم الخطاب على اوجه : أحدها فحوى الخطاب وهو ما دل عليه اللفظ من جهة التنبيه كقوله D { فلا تقل لهما أف } وقوله تعالى { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } وما أشبه ذلك مما ينص فيه على الأدنى لينبه به على الأعلى وعلى الأعلى لينبه به على الأدنى وهل يعلم ما دل عليه التنبيه من جهة اللغة أو من جهة القياس فيه وجهان : أحدهما أنه من جهة اللغة وهو قول أكثر المتكلمين وأهل الظاهر . ومنهم من قال هو من جهة القياس الجلي ويحكى ذلك عن الشافعي وهو الأصح لأن لفظ التأفيف لا يتناول الضرب وإنما يدل عليه بمعناه وهو الأدنى فدل على أنه قياس .
- 1 - فصل .
والثاني لحن الخطاب وهو ما دل عليه اللفظ من الضمير الذي لا يتم الكلام إلا به وذلك مثل قوله D { فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } ومعناه فضرب فانفجرت ومن ذلك أيضا حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله D { واسأل القرية } .
ومعناه أهل القرية ولا خلاف إن هذا كالمنطوق به في الإفادة والبيان ولا يجوز أن يضمر فيمثل هذا إلا ما تدعو الحاجة إليه فإن استقل الكلام بإضمار واحد لم يجز أن يضاف إليه غيره إلا بدليل فإن تعارض فيه إضماران أضمر ما دل عليه الدليل منهما وقد حكينا في مثل هذا الخلاف عمن يقول أنه يضمر فيه ما هو أعم فائدة أو موضع الخلاف وبينا فساد ذلك .
- 2 - فصل .
والثالث دليل الخطاب وهو أن يعلق الحكم على إحدى صفتي الشيء فيدل على أن ما عداها بخلافه كقوله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبأ .
فتبينوا } فيدل على أنه إن جاء عدل لم يتبين وكقوله A ( في سائمة الغنم زكاة ) فيدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها وقال عامة أصحاب أبي حنيفة C وأكثر المتكلمين لا يدل على أن ما عداه بخلافه بل حكم ما عداه موقوف على الدليل وقال أبو العباس بن سريج إن كان بلفظ الشرط كقوله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } دل على أن ما عداه بخلافه وإن لم يكن بلفظ الشرط لم يدل وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة C والدليل على ما قلناه أن الصحابة اختلفت في إيجاب الغسل من الجماع من غير إنزال فقال بعضهم لا يجب واحتجوا بدليل الخطاب في قول النبي A ( الماء من الماء ) وأنه لما أوجب من الماء دل على أنه لا يجب من غير ماء ومن أوجب ذكر أن ( الماء من الماء ) منسوخ فدل على ذكرناه ولأن ( صفحة 25 ) تقييد الحكم بالصفة يوجب تخصيص الخطاب فاقتضى بإطلاقه النفي والإثبات كالاستثناء .
- 3 - فصل .
وأما إذا علق الحكم بغاية فإنه يدل على أن ما عداها بخلافها وبه قال أكثر من أنكر القول بدليل الخطاب . ومنهم من قال لا يدل والدليل على ما قلناه هو أنه لو جاز أن يكون حكم ما بعد الغاية موافقا لما قبلها خرج عن أن يكون غاية وهذا لا يجوز . 4 - فصل .
وأما إذا علق الحكم على صفة بلفظ إنما كقوله A ( إنما الأعمال بالنيات ) وقوله A ( إنما الولاء لمن اعتق ) دل أيضا على أن ما عداها بخلافها وبه قال كثير ممن لم يقل بدليل الخطاب . وقال بعضهم لا يدل على أن ما عداها بخلافها وهذا خطأ لأن هذه اللفظة لا تستعمل إلا لإثبات المنطوق به ونفي ما عداه ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول إنما في الدار زيد وبين أن يقول ليس في الدار إلا زيد وبين أن يقول إنما الله واحد وبين أن يقول لا إله إلا واحد فدل على أنه يتضمن النفي والإثبات .
- 5 - فصل .
فأما إذا علق الحكم على صفة في جنس كقوله A ( في سائمة الغنم زكاة ) دل ذلك على نفي الزكاة عن معلوفة الغنم دون ما عداها ومن أصحابنا من قال يدل على نفيها عما عداها في جميع الأجناس وهذا خطأ لأن الدليل يقتضي النطق فإذا اقتضى النطق الإيجاب في سائمة الغنم وجب أن يقتضي الدليل نفيها عن معلوفة الغنم .
- 6 - فصل .
فأما إذا علق الحكم على مجرد الاسم مثل أن يقول في الغنم زكاة فإن ذلك لا يدل على نفي الزكاة عما عدا الغنم ومن أصحابنا من قال يدل كالصفة والمذهب الأول لأنه قد يخص اسم بالذكر وهو وغيره سواء ألا ترى أنهم يقولون اشتر غنما وإبلا وبقرا فينص على كل واحد منها مع إرادة جميعها ولا يضم الصفة إلى الاسم وهي وغيرها سواء ألا ترى أنهم لا يقولون اشتر غنما سائمة وهي و المعلوفة عندهم سواء فافترقا .
- 7 - فصل .
إذا أدى القول بالدليل إلى إسقاط الخطاب سقط الدليل وذلك مثل قوله A ( لا تبع ما ليس عندك ) فإن دليله يقتضي جواز بيع ما هو عنده وإن كان غائبا عن العين وإذا اجزنا ذلك لزمنا ألا نجيز بيع ما ليس عنده لأن أحدا لم يفرق بينهما وإذا اجزنا ذلك سقط الخطاب وهو قوله A ( لا تبع مال ليس عندك ) فيسقط الدليل ويبقى الخطاب لأن الدليل فرع الخطاب ولا يجوز أن يعترض الفرع على الأصل بالإسقاط