والأدلة التي يجوز التخصيص بها ضربان : متصل ومنفصل فالمتصل هو الاستثناء والشرط والتقييد بالصفة ولها أبواب تأتي إن شاء الله تعالى وبه الثقة . وأما المنفصل فضربان من جهة العقل ومن جهة الشرع فالذي من جهة العقل ضربان أحدهما لا يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فهذا لا يجوز التخصيص به لأن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع والثاني ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك مثل ما دل عليه العقل من نفي الخلق عن صفاته فيجوز التخصيص به ولهذا خصصنا قوله تعالى { الله خالق كل شيء } في الصفات وقلنا المراد ما خلا الصفات لأن العقل قد دل على أنه لا يجوز أن يخلق صفاته فخصصنا العموم به .
- 1 - فصل .
وأما الذي من جهة الشرع فوجوه نطق الكتاب والسنة ومفهومهما وأفعال رسول الله A وإقراره وإجماع الأمة والقياس . فأما الكتاب فيجوز تخصيص الكتاب به كقوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } .
خص به قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ويجوز تخصيص السنة به ومن الناس من قال لا يجوز والدليل على جوازه هو أن الكتاب مقطوع بصحة طريقه والسنة غير مقطوع بطريقها فإذا جاز تخصيص الكتاب به فتخصيص السنة به أولى . 2 - فصل .
فأما السنة فيجوز تخصيص الكتاب بها وذلك كقوله A ( لا يرث القاتل ) خص به قوله D { يوصيكم الله أولادكم } وقال بعض المتكلمين لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد . وقال عيسى بن أبان إن دخله التخصيص بدليل جاز تخصيصه بخبر الواحد وإن لم يدخله التخصيص لم يجز والدليل على جواز ذلك أنهما دليلان أحدهما خاص والآخر عام فقضى بالخاص منهما على العام كما لو كانا من الكتاب والدليل على من فرق بين أن يكون قد خص بغيره أو لم يخص هو أنه إنما خص به إذا دخله التخصيص لأنه يتناول الحكم بلفظ غير محتمل والعموم يتناوله بلفظ محتمل وهذا المعنى موجود وإن لم يدخله التخصيص . ويجوز تخصيص السنة بالسنة وذلك مثل قوله A ( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) يخص به قوله A ( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) ومن الناس من قال لا يجوز من جهة أن السنة جعلت بيانا فلا يجوز أن يفتقر البيان إلى بيان . وقال بعض أهل الظاهر يتعارض الخاص والعام وهو قول القاضي أبي بكر الأشعري والدليل على ما قلناه يجيء إن شاء الله تعالى .
- 3 - فصل .
وأما المفهوم فضربان : فحوى الخطاب ودليل الخطاب فأما فحوى الخطاب فهو التنبيه ويجوز التخصيص به كقوله تعالى { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } لأن هذا في قول الشافعي رحمة الله عليه يدل على الحكم بمعناه إلا أنه معنى جلي وعلى قوله يدل على الحكم بلفظه فهو كالنص . وأما دليل الخطاب الذي هو مقتضى النطق فيجوز تخصيص العموم به وقال أبو العباس ابن سيريج لا يجوز التخصيص به وهو قول أهل العراق لأن عندهم أنه ليس بدليل والكلام ( صفحة 18 ) معهم يجيء إن شاء الله تعالى وعندنا هو دليل كالنطق في أحد الوجهين وكالقياس في الوجه الآخر وأيهما كان في جاز التخصيص .
- 4 - فصل .
في تعارض اللفظين إذا تعارض لفظان فلا يخلو إما أن يكونا خاصين أو عامين أو أحدهما خاصا والآخر عاما أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه فإن كانا خاصين مثل أن يقول لا تقتلوا المرتد واقتلوا المرتد وصلوا ما لها سبب عند طلوع الشمس ولا تصلوا ما لا سبب لها عند طلوع الشمس فهذا لا يجوز أن يرد إلا في وقتين ويكون أحدهما ناسخا للآخر فإن عرف التاريخ نسخ الأول بالثاني وإن لم يعرف وجب التوقف وإن كانا عامين مثل أن يقول : من دينه فاقتلوه ومن بدل دينه فلا تقتلوه وصلوا عند طلوع الشمس ولا تصلوا عند طلوع الشمس فهذا إن أمكن استعمالهما في حالين استعملا كما قال A ( خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد ) وقال ( شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد ) فقال أصحابنا الأول محمول عليه إذا شهد وصاحب الحق لا يعلم أن له شاهدا فإن الأولى أن يشهد وإن لم يستشهد ليصل المشهود له إلى حقه والثاني محمول عليه إذا علم من له الحق أن له شاهدا فلا يجوز للشاهد أن يبدأ بالشهادة قبل أن يستشهد وإن لم يمكن استعمالهما وجب التوقف كالقسم الذي قبله وإن كان أحدهما عاما والآخر خاصا مثل قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } .
مع قوله A ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) وقوله ( فيما سقت السماء العشر ) مع قوله ( ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ) فالواجب في مثل هذا وأمثاله أن يقضى بالخاص على العام ومن أصحابنا من قال كان الخاص متأخرا والعام متقدما نسخ الخاص من العموم بقدره بناء على أن تأخير البيان عن وقت الخطاب لا يجوز وهذا قول المعتزلة . وقال بعض أهل الظاهر يتعارض الخاص والعام وهو قول أبي بكر الأشعري وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان الخاص مختلفا فيه والعام مجمعا عليه لم يقض به على العام وإن كان متفقا عليه قضى به . والدليل على ما ذكرناه أن الخاص هو أقوى من العام لأن الخاص يتناول الحكم بلفظ لا احتمال فيه والعام يتناوله بلفظ محتمل فوجب أن يقضي بالخاص عليه . وأما إذا كان واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه يمكن أن يخص بكل واحد منهما عموم الآخر مثل ما روى : أن النبي A ( نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس ) مع قوله A ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) فإنه يحمل أن يكون المراد بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس ما لا سبب لها من الصلوات بدليل قوله A ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) ويحتمل أن يكون المراد بقوله A ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها في غير طلوع الشمس ) بدليل ما روى أن النبي A نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس فالواجب في مثل هذا أن لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بدليل شرعي من غيرهما يدل على المخصوص منهما أو ترجيح يثبت لأحدهما على الآخر كما روى عن عثمان وعلي رضي ( صفحة 19 ) الله عنهما في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى وهل يجوز أن يخلوا مثل هذا من الترجيح من الناس من قال لا يجوز ومنهم من قال يجوز وإذا خلى تعارضا وسقطا ورجع المجتهد إلى براءة الذمة .
- 5 - فصل .
وأما أفعال رسول الله A فيجوز التخصيص بها وذلك مثل أن يحرم أشياء بلفظ عام ثم يفعل بعضها فيخص بذلك العام ومن الناس من قال لا يجوز التخصص بها وهو قول بعض أصحابنا لأنه يجوز أن يكون مخصوصا به والأول أصح لأنه وإن جاز أن يكون مخصوصا إلا أن الأصل مشاركة الأمة في الأحكام ولهذا قال الله تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } .
- 6 - فصل .
وأما الإقرار فيجوز التخصيص به كما رأى قيسا يصلي ركعتي الفجر بعد الصبح فأقره عليه فيخص به نهيه A عن الصلاة بعد الصبح لأنه لا يجوز أن يرى منكرا فيقر عليه فلما أقره دل على جوازه .
- 7 - فصل .
وأما الإجماع فيجوز التخصيص به لأنه أقوى من الظواهر فإذا جاز التخصيص بالظواهر فبالإجماع أولى .
- 8 - فصل .
وأما قول الواحد من الصحابة إذا انتشر ولم يعرف له مخالف فهو حجة يجوز التخصيص به وإن لم ينشر فإن كان له مخالف لم يجز التخصيص به وإن لم يكن له مخالف فهل يجوز التخصيص به يبنى على القولين في أنه حجة أم لا فإذا قلنا ليس بحجة لم يجز التخصيص به وإذا قلنا أنه حجة فهل يجوز التخصيص به . فيه وجهان أحدهما . يجوز . والثاني لا يجوز .
- 9 - فصل .
وأما القياس فيجوز التخصيص به ومن أصحابنا من قال لا يجوز التخصيص به وهو قول أبي علي الجبائي واختيار القاضي أبي بكر الأشعري . وقال عيسى بن أبان إذا ثبت تخصيصه بدليل يوجب العلم جاز التخصيص به وإن لم يثبت تخصيصه بدليل يوجب العلم لم يجز . وقال بعض أهل العراق إن دخله التخصيص بدليل غير القياس جاز التخصيص به وإن لم يدخله التخصيص بغيره لم يجز . والدليل على جواز ذلك أن القياس يتناول الحكم فيما يخصه بلفظ غير محتمل فخص به العموم كاللفظ الخاص .
- 10 - فصل .
وأما قول الراوي فلا يجوز تخصيص العموم به . وقال أصحاب أبي حنيفة C يجوز والدليل على أنه لا يجوز هو أن تخصيصه يجوز أن يكون بدليل ويجوز أن يكون بشبهة فلا يترك الظاهر بالشك وكذلك لا يجوز ترك شيء من الظواهر بقوله مثل أن يحتمل الخبر أمرين وهو في أحدهما اظهر فيصرفه الراوي إلى الآخر فلا يقبل ذلك منه لما بيناه في تخصيص العموم . وأما إذا احتمل اللفظ أمرين احتمالا واحدا فصرفه إلى أحدهما مثل ما روى عن عمر كرم الله وجهه أنه حمل قوله A ( الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ) على القبض في المجلس فقد قيل إنه يقبل ذلك لأنه أعرف بمعنى الخطاب . وقال الشيخ الإمام C وفيه نظر عندي . ( صفحة 20 ) .
- 11 - فصل .
وأما العرف و العادة فلا يجوز تخصيص العموم به لأن الشرع لم يوضع على العادة وإنما وضع في قول بعض الناس على حسب المصلحة وفي قول الباقين على ما أراد الله تعالى وذلك لا يقف على العادة .
- 12 - فصل .
وأما تخصيص أول الآية بآخرها وآخرها بأولها فلا يجوز ذلك مثل قوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } .
وهذا عام في الرجعية وغيرها ثم قال في آخر الآية { وبعولتهن أحق بردهن } وهذا خاص بالرجعيات فيحمل أول الآية على العموم وآخرها على الخصوص ولا يخص أولها بآخرها لجواز أن يكون قصد بآخر الآية بيان بعض ما اشتمل عليه أول الآية فلا يجوز ترك العموم بأولها