الاجتهاد في عرف الفقهاء : استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعي . والأحكام ضربان عقلي وشرعي فأما العقلي فهو كحدوث العالم وإثبات الصانع وإثبات النبوة وغير ذلك من أصول الديانات والحق في هذه المسائل في واحد وما عداه باطل وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال كل مجتهد في الأصول مصيب ومن الناس من حمل هذا القول منه على أنه إنما أراد في أصول الديانات التي يختلف فيها أهل القبلة ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار محتملة للتأويل كالرؤية وخلق الأفعال والتجسيم وما أشبه ذلك دون ما يرجع إلى الاختلاف بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان والدليل على فساد قوله هو أن هذه الأقوال المخالفة للحق من التجسيم ونفي الصفات لا يجوز ورود الشرع بها فلا يجوز أن يكون المخالف فيها مصيبا كالقول بالتثليث وتكذيب الرسل .
- 1 - فصل .
وأما الشرعية فضربان : ضرب يسوغ فيه الاجتهاد وضرب لا يسوغ فيه الاجتهاد فأما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فعلى ضربين : أحدهما ما علم من دين الرسول A ضرورة كالصلوات المفروضة والزكوات الواجبة وتحريم الزنا واللواط وشرب الخمر وغير ذلك فمن خالف في شيء من ذلك بعد العلم فهو كافر لأن ذلك معلوم من دين الله تعالى ضرورة فمن خالف فيه فقد كذب الله تعالى ورسوله A في خبرهما فحكم بكفره . والثاني ما لم يعلم من دين الرسول A ضرورة كالأحكام التي تثبت بإجماع الصحابة وفقهاء الإعصار ولكنها لم تعلم من دين الرسول A ضرورة فالحق من ذلك في واحد وهو ما أجمع الناس عليه فمن خالف في شيء من ذلك بعد العلم به فهو فاسق . وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد وهو المسائل التي اختلف فيها فقهاء الأمصار على قولين وأكثر فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال الحق من ذلك كله في واحد وما عداه باطل إلا أن الإثم موضوع عن المخطئ فيه وذكر هذا القائل أن هذا هو مذهب الشافعي C لا قول له غيره ومن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما ما قلناه والثاني أن كل مجتهد مصيب وهو ظاهر قول مالك C وأبي حنيفة C وهو مذهب المعتزلة وأبي الحسن الأشعري وحكي القاضي أبو بكر الأشعري عن أبي علي بن أبي هريرة من أصحابنا إنه كان يقول باخرة أن الحق من هذه الأقاويل في واحد مقطوع به عند الله تعالى وأن مخطئه مأثوم والحكم بخلافه منصوص وهو قول الأصم بن علية وبشر المريسي . واختلف القائلون من أصحابنا أن الحق في واحد في أنه هل الكل مصيب في اجتهاده أم لا فقال بعضهم إن المخطئ في الحكم مخطئ في الاجتهاد وقال بعضهم أن الكل مصيب في الاجتهاد وإن جاز أن يخطئ في الحكم حكي ذلك عن أبي العباس واختلف القائلون بأن كل مجتهد مصيب فقال بعض أصحاب أبي حنيفة C أن عند الله ( صفحة 73 ) D أشبهه مطلوب ربما أصابه المجتهد وربما أخطأ ه ومنهم من أنكر ذلك والقائلون بالأشبه اختلفوا في تفسيره فمنهم من أبى تفسيره بأكثر من أنه أشهر وحكي عن بعضهم أنه قال الأشبه عند الله في حكم الحادثة قوة الشبه بقوة الإمارة وهذا تصريح بأن الحق في واحد يجب طلبه . وقال بعضهم الأشبه عند الله تعالى أن عنده في هذه الحادثة حكما لو نص عليه وبينه لم ينص إلا عليه والصحيح من مذهب أصحابنا هو الأول وأن الحق في واحد وما سواه باطل وأن الإثم مرفوع عن المخطئ والدليل على ذلك وقوله A ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) ولأنه لو كان الجميع حقا وصوابا لم يكن للنظر والبحث معنى وأما الدليل على وضع المأثم عن المخطئ فما ذكرناه من الخبر ولأن الصحابة Bهم أجمعت على تسويغ الحكم بكل واحد من الأقاويل المختلف فيها وإقرار المخالفين على ما ذهبوا إليه من الأقاويل فدل على أنه لا مأثم على واحد منهم .
- 2 - فصل .
لا يجوز أن تتكافأ الأدلة في الحادثة بل لا بد من ترجيح أحد القولين على الآخر وقال أبو علي وأبو هاشم يجوز أن تتكافأ الأدلة فيتخير المجتهد عند ذلك من القولين المختلفين فيعمل بما شاء منهم والدليل على ما قلناه أنه إذا كان الحق في واحد على ما بيناه لم يجز أن تتكافأ الأدلة فيه كالعقليات