ومن يسوغ له التقليد ومن لا يسوغ .
قد بينا الأدلة التي يرجع إليها المجتهد في معرفة الحكم وبقي الكلام في بيان ما يرجع إليه العامل في العمل وهو التقليد وجملته أن التقليد قبول القول من غير دليل . والأحكام على ضربين عقلي وشرعي فأما العقلي فلا يجوز فيه التقليد كمعرفة الصانع وصفاته ومعرفة الرسول A وغير ذلك من الأحكام العقلية وحكي عن أبي عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال يجوز التقليد في أصول الدين وهذا خطأ لقول الله تعالى { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } .
فذم قوما اتبعوا آباءهم في الدين فدل على أن ذلك لا يجوز لأن طريق هذه الأحكام العقل والناس كلهم يشتركون في العقل فلا معنى للتقليد فيه . ( صفحة 70 ) .
- 1 - فصل .
وأما الشرعي فضربان ضرب يعلم ضرورة من دين الرسول A كالصلوات الخمس والزكوات وصوم شهر رمضان والحج وتحريم الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك فهذا لا يجوز التقليد فيه لأن الناس كلهم يشتركون في إدراكه والعلم به فلا معنى للتقليد فيه وضرب لا يعلم إلا بالنظر والاستدلال كفروع العبادات والمعاملات والفروج والمناكحات وغير ذلك من الأحكام فهذا يسوغ فيه التقليد وحكي عن أبي علي الجبائي أنه قال إن .
كان ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد جاز وإن كان مما لا يجوز فيه الاجتهاد لم يجز . والدليل على ما قلناه قوله تعالى { فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
ولأنا لو منعنا التقليد فيه لاحتاج كل أحد أن يتعلم ذلك وفي إيجاب ذلك قطع عن المعاش وهلاك الحرث والزرع فوجب أن يسقط .
- 2 - فصل .
وأما من يسوغ له التقليد فهو العامي وهو الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية فيجوز له أن يقلد عالما ويعمل بقوله . وقال بعض الناس : لا يجوز حتى يعرف علة الحكم والدليل على ما قلناه هو أنا لو ألزمناه معرفة العلة أدى إلى ما ذكرناه من الانقطاع عن المعيشة وفي ذلك خراب الدنيا فوجب أن لا يجب .
- 3 - فصل .
وأما العالم فينظر فيه فإن كان الوقت واسعا عليه يمكنه الاجتهاد لزمه طلب الحكم بالاجتهاد ومن الناس من قال يجوز له تقليدا لعالم وهو قول أحمد وإسحاق وسفيان الثوري وقال محمد بن الحسن يجوز له تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله ومن الناس من قال إن كان في حادثة نزلت به جاز له أن يقلد ليعمل به وإن كان في حادثة نزلت بغيره لم يجز أن يقلد ليحكم به أو يفتي به فالدليل على ما قلناه هو أن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم المطلوب فلا يجوز له تقليد غيره كما قلناه في العقليات .
- 4 - فصل .
وإن كان قد ضاق عليه الوقت وخشي فوت العبادة إن اشتغل بالاجتهاد ففيه وجهان : أحدهما لا يجوز وهو قول أبي إسحاق والثاني يجوز وهو قول أبي العباس والأول أصح لأن معه آلة يتوصل بها إلى الاجتهاد فأشبه إذا كان الوقت واسعا