والقول بأقل ما قيل وإيجاب الدليل على الباقي .
واختلف أصحابنا في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع فمنهم من قال أنها على الوقف لا يقضي فيها بحظر ولا إباحة وهو قول أبي علي الطبري وهو مذهب الأشعرية ومن أصحابنا من قال هو على الإباحة وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق فإذا رأى شيئا جاز له تملكه ( صفحة 68 ) وتناوله وهو قول المعتزلة البصريين ومنهم من قال هو على الحظر فلا يحل له الانتفاع بها ولا التصرف فيها وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وهو قول المعتزلة البغداديين والأول أصح لأنه لو كان العقل يوجب في هذه الأعيان حكما من حظر أو إباحة لما ورد الشرع فيها بخلاف ذلك ولما جاز ورود الشرع بالإباحة مرة وبالحظر مرة أخرى دل على أن العقل لا يوجب في ذلك حظرا ولا إباحة .
- 1 - فصل .
وأما استصحاب الحال فضربان : استصحاب حال العقل واستصحاب حال الإجماع فأما استصحاب حال العقل فهو الرجوع إلى براءة الذمة في الأصل - 1 - وذلك طريق يفزع إليه المجتهد عند عدم أدلة الشرع ولا ينتقل عنها إلا بدليل شرعي ينقله عنه فإن وجد دليلا من أدلة الشرع انتقل عنه سواء كان ذلك الدليل نطقا أو مفهوما أو نصا أو ظاهرا لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم دليل شرعي فأي دليل ظهر من جهة الشرع حرم عليه استصحاب الحال بعده .
- 2 - فصل .
والضرب الثاني استصحاب حال الإجماع وذلك مثل أن يقول الشافعي Bه في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته إنه يمضي فيها لأنهم أجمعوا قبل رؤية الماء على انعقاد صلاته فيجب أن تستصحب هذه الحال بعد .
رؤية الماء حتى يقوم دليل ينقله عنه فهذا اختلف أصحابنا فيه : فمنهم من قال أن ذلك دليل وهو قول أبي بكر الصيرفي من أصحابنا . ومنهم من قال إن ذلك ليس بدليل وهو الصحيح لأن الدليل هو الإجماع والإجماع إنما حصل قبل رؤية وإذا رأى الماء فقد زال الإجماع فلا يجوز أن يستصحب حكم الإجماع في موضع الخلاف من غير علة تجمع بينهما .
- 3 - فصل .
فأما القول بأقل ما قيل فهو أن يختلف الناس في حادثة على قولين أو ثلاثة فقضى بعضهم فيها بقدر وقضى بعضهم فيها بأقل من ذلك القدر وذلك مثل اختلافهم في دية اليهودي والنصراني : فمنهم من قال تجب فيه دية مسلم . ومنهم من قال تجب فيه نصف دية مسلم . ومنهم من قال تجب فيه ثلث دية مسلم فهذا الاستدلال به من وجهين أحدهما من جهة استصحاب الحال في براءة الذمة وهو أن يقول الأصل براءة الذمة إلا فيما دل الدليل عليه من جهة ( صفحة 69 ) الشرع وقد دل الدليل على اشتغال ذمته بثلث الدية وهو الإجماع وما زاد عليه باق على براءة الذمة فلا يجوز إيجابه إلا بدليل فهذا استدلال صحيح لأنه استصحاب حال العقل في براءة الذمة . والثاني أن يقول هذا القول متيقن وما زاد مشكوك فيه فلا يجوز إيجابه بالشك فهذا لا يصح لأنه لا يجوز إيجاب الزيادة بالشك فلا يجوز أيضا إسقاط الزيادة بالشك .
- 4 - فصل .
وأما النافي للحكم فهو كالمثبت في وجوب الدليل عليه ومن أصحابنا من قال النافي لا دليل عليه . ومن الناس من قال إن كان ذلك في العقليات فعليه الدليل وإن كان في الشرعيات لم يكن عليه دليل والدليل على ما قلناه هو أن القطع بالنفي لا يعلم إلا عن دليل كما أن القطع بالإثبات لا يعلم إلا عن دليل وكما لا يقبل الإثبات إلا بدليل فكذلك النفي .
[ 1 ] - أي ملازمة الأصل في براءة الذمة نحو أن يقال : الأصل براءة الذمة فمن ادعى منعها بالوتر والأضحية والكفارة أو بالزيادة على ثلث الدية فعليه الدليل فهذا مما يصح أن يتمسك به ومن أنكر ذلك فقد جهل النظر لأن عدم الحكم مقطوع به إذا وقع الاختلاف زال القطع بوقوع الاحتمال و لكن يبقى الظن و هذا كما لو كان معه ما يتيقن طهارته فإنه على يقين من حكمه و لو حدث أمر يحتمل التنجيس زال القطع و بقي الظن و كذلك إذا شك في الحدث بعد الطهارة أو في الطهارة بعد الحدث فإنه يبني على الأصل لأنه إذا انحطت درجة القطع لم يعدم الظن وهو في الفقه كاف بالإجماع فإن قيل العقل عندكم لا يثبت حكما فكيف تقولون يستصحب الأصل . قلنا يستصحب نفي الحكم . فإن قيل النفي لا ينضبط ولا يكون عليه دليل وغاية ما في الأمر جهل المستدل بدليل النقل واستفراغه للبحث وليس جهله حجة في الشرع ويجوز أن يخفي عنه ما ظهر لغيره من الأدلة . قلنا الدليل إنما يتبع بأنه كاشف عن الحقيقة فإذا علمت حقيقة للبراءة كان علمنا بها في الأصل دليلا قطعيا من كتاب السلف