قال الشيخ الإمام الأوحد C ورضي عنه قد ذكرت في الملخص في الجدل فيما يفسد العلة خمسة عشر نوعا وأنا أذكرها هنا ما يليق بهذا الكتاب إن شاء الله تعالى فأقول إن الذي يفسد العلة عشرة أشياء أحدها أن لا يكون على صحتها دليل فيدل ذلك على فسادها لأني قد بينت في الباب قبله أن العلة شرعية فإذا لم يكن على صحتها دليل من جهة الشرع دل على أنها ليست بعلة فوجب الحكم بفسادها .
- 1 - فصل .
والثاني أن تكون العلة منصوبة لما لا يثبت بالقياس كأقل الحيض وأكثره وإثبات الأسماء واللغات على قول من لا يجيز إثابتها بالقياس وغير ذلك من الأحكام التي لا مدخل للقياس فيها على ما تقدم شرحها فيدل ذلك على فسادها .
- 2 - فصل .
والثالث أن تكون العلة منتزعة من أصل لا يجوز انتزاع العلة منه مثل أن يقيس على أصل غير ثابت كأصل منسوخ أو أصل لم يثبت الحكم فيه لأن الفرع لا يثبت إلا بالأصل فإذا لم يثبت الأصل لم يجز إثبات الفرع من جهته وهكذا لو كان الأصل قد ورد الشرع بتخصيصه ومنع القياس عليه مثل قياس أصحاب أبي حنيفة C غير رسول الله A على رسول الله A في جواز النكاح بلفظ الهبة وقد ورد الشرع بتخصيصه بذلك فهذا أيضا لا يجوز القياس عليه لأن القياس إنما يجوز على ما لم يرد الشرع بالمنع منه فأما إذا ورد الشرع بالمنع منه فلا يجوز ولهذا لا يجوز القياس إذا منع منه نص أو إجماع . ( صفحة 63 ) .
- 3 - فصل .
والرابع أن يكون الوصف الذي جعل علة لا يجوز التعليل به مثل أن تجعل .
العلة اسم لقب أو نفي صفة على قول من يجيز ذلك أو شبها على قول من لا يجيز قياس الشبه أو وصفا لمن يثبت وجوده في الأصل وفي الفرع فيدل على فسادها لأن الحكم تابع للعلة وإذا كانت العلة لا تفيد الحكم أو لم تثبت لم يجز إثبات الحكم من جهتها .
- 4 - فصل .
والخامس أن لا تكون العلة مؤثرة في الحكم فيدل ذلك على فسادها ومن أصحابنا من قال إن ذلك لا يوجب فسادها وهي طريقة من قال إن طردها يدل على صحتها وقد دللت على فساده ومن أصحابنا من قال إن دفعه للنقض تأثير صحيح وهذا خطأ لأن المؤثر ما تعلق الحكم به في الشرع ودفع النقض عن مذهب المعلل ليس بدليل على تعلق الحكم به في الشرع وإنما يدل على تعلق الحكم به عنده وليس المطلوب علة المعلل وإنما المطلوب علة الشرع فسقط هذا القول وفي أي موضع يعتبر تأثير العلة فيه وجهان من أصحابنا من قال يطلب تأثيرها في الأصل لأن العلة تتفرع من الأصل أولا ثم يقاس الفرع عليه فإذا لم يؤثر في الأصل لم تثبت العلة فيه فكأنه رد الفرع إلى الأصل بغير علة الأصل ومنهم من قال يكفي أن يؤثر في وضع من الأصول وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري C وهو الصحيح عندي لأنها إذا أثرت في موضع من الأصول دل على صحتها وإذا صحت في موضع وجب تعليق الحكم عليها حيث وجدت .
- 5 - فصل .
والسادس أن تكون منتقضة وهي أن توجد ولا حكم معها وقال أصحاب أبي حنيفة وجود العلة من غير حكم ليس بنقض لها بل هو تخصيص لها وليس بنقض والدليل على فساد ذلك هو أنها علة مستنبطة فإذا وجدت من غير حكم وجب الحكم بفسادها دليله العلل العقلية وأما وجود معنى العلة ولا حكم وهو الذي سمته المتفقهة الكسر والنقض من طريق المعنى وهو أن تبدل العلة أو بعض أوصافها بما هو في معناه ثم يوجد ذلك من غير حكم فهذا ينظر فيه فإن كان الوصف الذي أبدله غير مؤثر في الحكم دل على فساد العلة لأنه إذا لم يكن مؤثرا وجب إسقاطه وإذا سقط لم يبق شيء فأما أن لا يبقى شيء فيسقط الدليل أو يبقى شيء فينتقض فيكون الفساد راجعا إلى عدم التأثير أو النقض وقد بيناهما وإن كان الوصف الذي أبدله مؤثرا في الحكم لم تفسد العلة لأن المؤثر في الحكم لا يجوز إسقاطه فلا يتوجه على العلة من جهته فساد فأما وجود الحكم من غير علة فينظر فيه فإن كانت العلة لجنس الحكم فهو نقض وذلك مثل أن نقول العلة في وجوب النفقة التمكين في الاستمتاع فأي موضع وجبت النفقة من غير تمكين فهو نقض وأي موضع وجد التمكين من غير نفقة فهو نقض لأنه زعم أن التمكين علة هذا الحكم أجمع لا علة له سواه فكأنه قال أي موضع وجد وجب وأي موضع فقد سقط فإذا وجد ولم يجب أو فقد ولم يسقط فقد أنتقض التعليل وإن كانت العلة للحكم في أعيان لا لجنس الحكم لم يكن ذلك نقضا لأنه يجوز أن يكون في الموضع الذي وجدت العلة يثبت الحكم بوجود هذه العلة وفي الموضع الذي عدمت يثبت لعلة أخرى كقولنا في الحائض يحرم وطؤها للحيض ثم يعدم الحيض في المحرمة والمعتدة ويثبت التحريم لعلة أخرى . ( صفحة 64 ) .
- 6 - فصل .
والسابع أن يمكن قلب العلة وهو أن يعلق عليها نقيض ذلك الحكم ويقاس على الأصل فهذا قد يكون بحكم مصرح وقد يكون بحكم مبهم . فأما المصرح فهو أن نقول عضو من أعضاء الوضوء فلا يتقدر فرضه بالربع كالوجه فيقول المخالف عضو من أعضاء الوضوء فلا يجز فيه ما يقع عليه الاسم كالوجه فهذا يفسد العلة ومن أصحابنا من قال إن ذلك لا يفسد العلة ولا يقدح فيها لأنه فرض مسألة على المعلل ومنهم من قال إن ذلك كالمعارضة بعلة أخرى فيصار فيهما إلى الترجيح والصحيح أنه يوجب الفساد . والدليل على أنه يقدح أنه عارضه بما لا يمكن الجمع بينه وبين علته فصار كما لو عارضه بعلة مبتدأة والدليل على أنه يوجب الفساد أنه يمكن أن يعلق عليها حكمان متنافيان فوجب الحكم بالفساد . وأما القلب بحكم مبهم فهو قلب التسوية وذلك مثل أن يقول الحنفي طهارة بمائع فلم يفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فيقول الشافعي C طهارة بمائع فكان مائعها كجامدها في وجوب النية كإزالة النجاسة فمن أصحابنا من قال أن ذلك لا يصح لأنه يريد التسوية بين المائع والجامد في الأصل في إسقاط النية وفي الفرع في إيجاب النية ومنهم من قال إن ذلك يصح وهو الأصح لأن التسوية بين المائع والجامد تنافى علة المستدل في إسقاط النية فصار كالحكم المصرح به .
- 7 - فصل .
والثامن أن لا يوجب العلة حكمها في الأصل وذلك على ضربين أحدهما أن يفيد الحكم في الفرع بزيادة أو نقصان عما يفيدها في الأصل ويدل على فسادها وذلك مثل أن يقول الحنفي في إسقاط تعيين النية في صوم رمضان لأنه مستحق العين فلا يفتقر إلى التعيين كرد الوديعة فهذا لا يصح لأنه يفيد في الفرع غير حكم الأصل لأنه يفيد في الأصل إسقاط التعيين مع النية رأسا وفي الفرع يفيد إسقاط التعيين ومن حكم العلة أن يثبت الحكم في الأصل ثم يتعدى إلى الفرع فينقل حكم الأصل إليه فإذا لم ينقل ذلك الحكم إليه دل على بطلانها . والثاني أن لا يفيد الحكم في نظائره على الوجه الذي أفاد في الأصل وذلك مثل أن يقول الحنفي في إسقاط الزكاة في مال الصبي أنه غير معتقد للإيمان فلا تجب الزكاة في مال كالكافر فإن هذا فاسد لأنه لا يوجب الحكم في النظائر على الوجه الذي يوجب في الأصل ألا ترى أنه لا يوجب إسقاط العشر في زرعه ولا زكاة الفطر في ماله كما يوجب في الأصل فدل على فسادها لأنها لو كانت توجب الحكم في الفرع لأوجبت الحكم في نظائره على الوجه الذي أوجب في الأصل .
- 8 - فصل .
والتاسع أن يعتبر حكما يحكم مع اختلافها في الموضع وهو الذي تسميه المتفقهة فساد الاعتبار ويعرف ذلك من طريقين من جهة النطق بأن يرد الشرع بالتفرقة بينهما فيدل ذلك على بطلان الجمع بينهما مثل أن يعتبر الطلاق بالعدة في أن الاعتبار فيه في رق المرأة وحريتها فهذا فاسد لأن النبي A فرق بينهما في ذلك فقال ( الطلاق بالرجال والعدة بالنساء ) فيكون الجمع باطلا بالنص ويعرف بالأصول . وهو أن يعتبر ما بني على ( صفحة 65 ) التخفيف في إيجاب التخفيف كاعتبار العمد بالسهو والضمان بالحد أو ما بني على التأكيد في الإسقاط بما بنى على التضعيف كاعتبار العتق بالرق والضمان بالحد أو بما بني على التغليظ في التغليظ كاعتبار السهو بالعمد أو ما بني على التغليظ بما بني على التخفيف أو ما بني على التضعيف بما بنى على التأكيد في الإيجاب كاعتبار الرق بالحرية والحد بالضمان فيدل ذلك على فسادها لأن اختلافهما في الوضع يدل على اختلاف علتهما وقد قيل إن ذلك لا يدل على الفساد إذا دلت الدلالة على صحة العلة .
- 9 - فصل .
والعاشر أن يعارضها ما هو أقوى منها من نص كتاب أو سنة أو إجماع فيدل ذلك على فسادها لأن هذه الأدلة مقطوع بصحتها فلا يثبت القياس معها