وجملته أن العلة لا بد من الدلالة على صحتها لأن العلة شرعية كما أن الحكم شرعي فكما لا بد من الدلالة على الحكم فكذلك لا بد من الدلالة على صحة العلة .
- 1 - فصل .
والذي يدل على صحة العلة شيئان أصل واستنباط فأما الأصل فهو قول الله D وقول رسول الله A وأفعاله والإجماع فأما قول الله تعالى وقول رسول الله A فدلالتهما من وجهين أحدهما من جهة النطق والثاني من جهة الفحوى والمفهوم فأما دلالتهما من جهة النطق فمن وجوه بعضها أجلى من بعض فأجلاها ما صرح فه بلفظ التعليل كقوله تعالى { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } وكقوله A ( إنما نهيتكم لأجل الدافة ) وقوله ( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر ) وقوله ( أينقص الرطب إذا يبس فقيل نعم فقال فلا إذن ) أي من أجله فهذا صريح في التعليل ويليه في البيان والوضوح أن يذكر صفة لا يفيد ذكرها غير التعليل كقوله تعالى في الخمر { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء } الآية وقوله A في دم الاستحاضة ( إنه دم عرق ) وكقوله في الهرة ( إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) وقوله A حين قيل له ( صفحة 61 ) إن في دار فلان هرة فقال ( الهرة سبع ) وفي بعضها ( الهرة ليست بنجسة ) فهذه الصفات وإن لم يصرح فيها بلفظ التعليل إلا أنها خارجة مخرج التعليل إذ لا فائدة في ذكرها سوى التعليل . ويليه في البيان أن يعلق الحكم على عين موصوفة بصفة فالظاهر أن تلك الصفة علة وقد يكون هذا بلفظة الشرط كقوله تعالى { وإن كن أولات حمل أنفقوا عليهن } .
وكقوله A ( من باع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ) فالظاهر أن الحمل علة لوجوب النفقة و التأبير علة لكون الثمرة للبائع وقد تكون بغير لفظ الشرط كقوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } .
وكقوله A ( لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل ) فالظاهر أن السرقة علة لوجوب القطع والطعم علة لتحريم التفاضل وأما دلالتهما من جهة الفحوى والمفهوم فبعضها أيضا أجلى من بعض فأجلاها ما دل عليه التنبيه كقوله تعالى { فلا تقل لهما أف } و كنهيه A عن التضحية بالعوراء فيدل بالتنبيه عند سماعه أن الضرب أولى بالمنع وأن العمياء أولى بالمنع ويليه في البيان أن يذكر صفة فيفهم من ذكرها المعنى التي تتضمنه تلك الصفة من غير جهة التنبيه كقوله A ( لا يقض القاضي وهو غضبان ) وكقوله A في الفأرة تقع في السمن ( إن كان جامدا فالقوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه ) فيفهم بضرب من الفكر أنه إنما منع الغضبان من القضاء لاشتغال قلبه وأن الجائع والعطشان مثله وإنه إنما أمر بإلقاء ما حول الفأرة من السمن إن كان جامدا وإراقته إن كان مائعا لكونه جامدا أو مائعا وإن الشيرج والزيت مثله .
- 2 - فصل - وأما دلالة أفعال الرسول A فهو أن يفعل شيئا عند وقوع معنى من جهته أو من جهة غيره فيعلم أنه لم يفعل ذلك إلا لما ظهر من المعنى فيصير ذلك علة فيه وهذا مثل ما روي ( أنه سها رسول الله A فسجد ) فيعلم أن السهو علة للسجود ( وأن أعرابيا جامع في رمضان فأوجب عليه عتق رقبة ) فيعلم أن الجماع علة لإيجاب الكفارة .
- 3 - فصل .
وأما دلالة الإجماع فهو أن تجمع الأمة على التعليل به كما روى عن عمر Bه أنه قال في قسمة السواد لو قسمت بينكم لصارت دولة بين أغنيائكم ولم يخالفوه وكما قال علي كرم الله وجهه في شارب الخمر إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى أن يحد حد المفترى فلم يخالفه أحد في هذا التعليل .
- 4 - فصل .
وأما الضرب الثاني من الدليل على صحة العلة فهو الاستنباط وذلك من وجهين أحدهما التأثير والثاني شهادة الأصول فأما التأثير فهو أن يوجد الحكم بوجود معنى فيغلب على الظن أنه لأصله ثبت الحكم ويعرف ذلك من وجهين أحدهما بالسلب والوجود وهو أن يوجد الحكم بوجوده ويزول بزواله وذلك مثل قوله في الخمر إنه شراب فيه شدة مطربة فإنه قبل حدوث الشدة كان حلالا ثم حدثت الشدة فحرم ثم زالت الشدة فحل فعلم أنه هو العلة والثاني بالتقسيم وهو أن يبطل كل معنى في الأصل إلا واحدا فيعلم أنه هو العلة وذلك مثل أن ( صفحة 62 ) يقول في الخبز إنه يحرم فيه الربا فلا يخلو إما أن يكون للكيل أو للطعم أو للوزن ثم يبطل أن يكون للكيل والوزن فيعلم أنه للطعم .
- 5 - فصل .
وأما شهادة الأصول فيختص بقياس الدلالة وهو أن يدل على صحة العلة شهادة الأصول وذلك أن يقول في القهقهة إن ما لا ينقض الطهر خارج الصلاة لم ينقض داخل الصلاة كالكلام فيدل عليها بأن الأصول تشهد بالتسوية بين داخل الصلاة وخارجها ألا ترى أن ما ينقض الوضوء داخل الصلاة ينقض خارجها كالأحداث كلها وما لا ينقض خارج الصلاة لا ينقض داخلها فيجب أن تكون القهقهة مثلها .
- 6 - فصل .
وما سوى هذه الطرق فلا يدل على صحة العلة وقال بعض الفقهاء : إذا لم يجد ما يعارضها ولا ما يفسدها دل على صحتها وقال أبو بكر الصيرفي في طردها يدل على صحتها فأما الدليل على من قال أن عدم ما يفسدها دليل على صحتها فهو أنه لو جاز أن يجعل هذا دليلا على صحتها لوجب إذا استدل بخير لا يعرف صحته أن يقال عدم ما يعارضه وما يفسده يدل على صحته وهذا لا يقوله أحد وأما الدليل على الصيرفي فهو أن الطرد فعل القائس وفعل القائس ليس بحجة في الشرع ولأن قوله إنها مطردة معناه أنه ليس هاهنا نقض يفسدها وقد بينا أن عدم ما يفسد لا يدل على الصحة