وجملته أنه إذا تعارض خبران وأمكن الجمع بينهما وترتيب أحدهما على الآخر في الاستعمال فعل وإن لم يكن ذلك وأمكن نسخ أحدهما بالآخر فعل على ما بينه في باب بيان الأدلة التي يجوز التخصيص لها وما لا يجوز فإن لم يكن ذلك رجح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح والترجيح يدخل في موضعين : أحدهما في الإسناد والآخر في المتن . فأما الترجيح في الإسناد فمن وجوه : أحدها أن يكون أحد الراويين صغيرا والآخر كبيرا فيقدم رواية الكبير لأنه أضبط ولهذا قدم ابن عمر روايته في الإفراد على رواية أنس فقال إن أنسا كان صغيرا يتولج على النساء وهن متكشفات وأنا آخذ بزمام ناقة رسول الله A يسيل علي لعابها . والثاني أن يكون أحدهما أفقه من الآخر فيقدم على من دونه لأنه أعرف بما يسمع . والثالث أن يكون أحدهما أقرب إلى رسول الله A فيقدم لأنه أوعى . والرابع أن يكون أحدهما مباشرا للقصة أو تتعلق القصة به فيقدم لأنه أعرف من الأجنبي . والخامس أن يكون أحد الخبرين أكثر رواة فيقدم على الخبر الآخر ومن أصحابنا من قال لا يقدم كما لا تقدم الشهادة بكثرة العدد والأول أصح لأن قول الجماعة أقوى في الظن وأبعد عن السهو ولهذا قال الله تعالى { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } .
والسادس أن يكون أحد الروايين أكثر صحبة فروايته أولى لأنه اعرف بما دام من السنن . والسابع أن يكون أحدهما ( صفحة 46 ) أحسن سياقا للحديث فيقدم لحسن عنايته بالخبر . والثامن أن يكون أحدهما متأخر الإسلام فيقدم لأنه يحفظ آخر الأمرين من النبي A وكذلك إذا كان أحدهما متأخر الصحبة كابن عباس وابن مسعود فرواية المتأخر منهما تقدم وقال بعض أصحاب أبي حنيفة C لا يقدم بالتأخير لأن المتقدم عاش حتى مات رسول الله A فساوى المتأخر في الصحبة وزاد عليه بالتقدم وهذا غير صحيح لأنه وإن كان قد ساوى المتأخر في الصحبة إلا أن سماع المتأخر متحقق التأخر وسماع المتقدم يحتمل التأخر والتقدم فما تأخر بيقين أولى ولهذا قال ابن عباس كنا نأخذ من أوامر رسول الله A بالأحدث فالأحدث . والتاسع أن يكون أحد الروايين أورع أو أشد احتياطا فيما يروى فتقدم روايته لاحتياطه في النقل . والعاشر أن يكون أحدهما قد اضطرب لفظه والآخر لم يضطرب فيقدم من لم يضطرب لفظه لأن اضطراب لفظه يدل على ضعف حفظه . والحادي عشر أن يكون أحد الخبرين من رواية أهل المدينة فيقدم على رواية غيرهم لأنهم يرثون أفعال رسول الله A وسنته التي مات عليها فهم أعرف بذلك من غيرهم . والثاني عشر أن يكون راوي أحد الخبرين قد اختلفت الرواية عنه والآخر لم تختلف عنه فاختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من قال تتعارض الروايتان عمن اختلفت الرواية عنه وتسقطان وتبقى رواية من لم تختلف عنه الرواية ومنهم من قال ترجح إحدى الروايتين عمن اختلفت الرواية عنه على الرواية الأخرى برواية من لم تختلف الرواية عنه .
- 1 - فصل - وأما ترجيح المتن فمن وجوه : أحدها أن يكون أحد الخبرين موافقا لدليل آخر من كتاب أو سنة أو قياس فيقدم على الآخر لمعاضدة الدليل له . والثاني أن يكون أحد الخبرين عمل به الأئمة فهو أولى لأن عملهم به يدل على أنه آخر الأمرين وأولاهما وهكذا إذا عمل بأحد الخبرين أهل الحرمين فهو أولى لأن عملهم به يدل على أنه قد استقر عليه الشرع وورثوه . والثالث أن يكون أحدهما يجمع النطق والدليل فيكون أولى ما يجمع أحدهما لأنه أبين . والرابع أن يكون أحدهما نطقا والآخر دليلا فالنطق أولى من الدليل لأن النطق مجمع عليه والدليل مختلف فيه . والخامس أن يكون أحدهما قولا وفعلا والآخر أحدهما فالذي يجمع القول والفعل أولى لأنه أقوى لتظاهر الدليلين وإن كان أحدهما قولا والآخر فعلا ففيه أوجه قد مضت في باب الأفعال . والسادس أن يكون أحدهما قصد به الحكم والآخر لم يقصد به الحكم فالذي قصد به الحكم أولى لأنه ابلغ في بيان الغرض وإفادة المقصود . والسابع أن يكون أحدهما ورد على سبب والآخر ورد على غير سبب فالذي ورد على غير سبب أولى لأنه متفق على عمومه والوارد على سبب مختلف في عمومه . والثامن أن يكون أحد الخبرين قضى به على الآخر فالذي قضى به منهما أولى لأنه ثبت له حق التقدم . والتاسع أن يكون أحدهما إثباتا والآخر نفيا فيقدم الإثبات لأن مع المثبت زيادة علم فالأخذ بروايته أولى .
و العاشر أن يكون أحدهما ناقلا والآخر منفيا فالناقل أولى لأنه يفيد حكما شرعيا . والحادي عشر ( صفحة 47 ) أن يكون لأحدهما احتياطا فيقدم على الذي لا احتياط فيه لأن الأحوط للدين أسلم . والثاني عشر أن يكون أحدهما يقتضي الحظر والآخر الإباحة ففيه وجهان أحدهما أنهما سواء والثاني أن الذي يقتضي الحظر أولى وهو الصحيح لأنه أحوط