الباب الثامن : في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والإستحسان .
هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيرا من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعا ونسبوها إلى الصحابة والتابعين وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات وقم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة فقالوا : إن منها ما هو واجب ومندوب وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضام على قارىء واحد .
وأيضا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية ـ في زعم واضعيها ـ في الشرع على الخصوص .
وإذا ثبت هذا فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقا فاعتبار البدع المستحسنة حق لأنهما يجريان من واد واحد وإن لم يكن اعتبار البدع حقا لم يصح اعتبار المصالح المرسلة .
وأيضا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا عليه بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل وذهب مالك إلى اعتبار ذلك وبنى الأحكام عليه على الإطلاق وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح لكن يشرط قربه من معاني الأصول الثابتة هذا ما حكى الإمام الجويني .
وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله لكن بشرط قال : ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد واختلف قوله في الرتبة المتوسطة وهي رتبة الحاجي فرده في المستصفى وهو آخر قوليه وقبله في شفاء العليل كما قل ما قبله وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله فالأقوال خمسة فإذا الراد لاعتبارها لا يبقى له في الوقائع الصحابية مستند إلا أنها بدعة مستحسنة ـ كما قال عمر بن الخطاب Bه في الاجتماع لقيام رمضان : نعمت البدعة هذه ـ إذ لا يمكنهم ردها لإجتماعهم عليها .
وكذلك القول في الاستحسان فإنه على ما ذهب إليه المتقدمون راجع إلى الحكم بغير دليل والنافي له لا يعد الاستحسان سببا فلا يعتبر في الأحكام البتة فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها .
فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر بحول الله والله الموفق فنقول : .
المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام : .
أحدها : أن يشهد الشرع بقبوله فلا إشكال في صحته ولا خلاف في أعماله وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها .
والثاني : ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التسحين العقلي بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام فحينئذ نقبله فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى بل يرده كان مردودا باتفاق المسلمين .
ومثال ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان فقال : عليك صيام شهرين متتابعين فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له : القادر على اعتاق الرقبة كيف يعدل له إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين ؟ فقال لهم : لو قلت له عليك إعتاق رقبة لا ستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين .
فهذا المعنى مناسب لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين : قائل بالتخيير وقائل بالترتيب فيقدم العتق على الصيام فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا لكنه على صريح الفقه .
قال يحيى بن بكير : حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة فسأل مالكا فقال : صيام ثلاثة أيام واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة .
حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائمه ووطئها في رمضان فأفتوا بالإطعام و إسحاق بن إبرهيم ساكت فقال له أمير المؤمنين : ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه ؟ فقال له : لا أقول بقولهم وأقول بالصيام فقيل له : أليس مذهب مالك الإطعام ؟ فقال لهم : تحفظون مذهب مالك إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين إنما أمر بالإطعام لمن له مال وأمير المؤمنين لا مال له إنما هو مال بيت المسلمين فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه ا هـ وهذا صحيح .
نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته فقال يحيى بن يحيى : يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده فقالوا ليحيى : ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام ؟ فقال لهم : لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود .
فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى C وكان كلامه على ظاهره كان مخالفا للإجماع .
والثالث : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه فهذا على وجهين : .
أحدهما : أن يرد نص على وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراث فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفاق ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله .
والثاني : أن يلائم تصرفات الشرع وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله .
ولنقتصر على عشرة أمثلة :