فصل ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة .
ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه ؟ أم غير بدعة فيعمل به ؟ فإنا إذا اعتبرناه بالأحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها حذرا من الوقوع في المحظور والمحظور هنا هو العمل بالبدعة فإذا العامل به لا يقطع أنه عمل ببدعة كما أنه لا يقطع أنه عمل بسنة فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقية ولا يقال أيضا : إنه خارج عن العمل بها جملة .
وبيان ذلك أن النهي الوارد في المشتبهات إنما هو حماية أن يقع في ذلك الممنوع الواقع فيه الاشتباه فإذا اختلطت الميتة بالذكية نهيناه عن الإقدام فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون آكلا للميتة في الاشتباه فالنهي الأخف إذا منصرف نحو الميتة في الاشتباه كما انصرف إليها النهي الأشد في التحقق .
وكذلك اختلاط الرضيعة بالأجنبية : النهي في الاشتباه منصرف إلى الرضيعة كما انصرف إليها في التحقق وكذلك سائر المشتبهات إنما ينصرف نهي الإقدام على المشتبه إلى خصوص الممنوع المشتبه فإذا الفعل الدائر بين كونه سنة أو بدعة إذا نهي عنه في باب الاشتباه نهي عن البدعة في الجملة فمن أقدم على منهي عنه في باب البدعة لأنه محتمل أن يكون بدعة في نفس الأمر فصار من هذا الوجه كالعامل بالبدعة المنهي عنها وقد مر أن البدعة الإضافية هي الواقعة ذات وجهين فلذلك قيل : إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية ولهذا النوع أمثلة : .
أحدهما : إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفلاني مشروع يتعبد به أو غير مشروع فلا يتعبد به ولم يتبين جمع بين الدليلين أو إسقاط أحدهما بنسخ أو ترجيح أو غيرهما فقد ثبت في الأصول أن فرضه التوقف فلو عمل بمقتضى دليل التشريع من غير مرجح لكان عاملا بمتشابه لإمكان صحة الدليل بعدم المشروعية فالصواب الوقوف عن الحكم رأسا وهو الفرض في حقه .
والثاني : إذا تعارضت الأقوال على المقلد في المسألة بعينها فقال بعض العلماء : يكون العمل بدعة وقال بعضهم : ليس ببدعة ولم يتبين له الأرجح من العالمين بأعلمية أو غيرها فحقه الوقوف والسؤال عنهما حتى يتبين له الأرجح فيميل إلى تقليده دون الآخر فإن أقدم على تقليد أحدهما من غير مرجح كان حكمه حكم المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح فالمثالان في المعنى واحد .
والثالث : أنه ثبت في الصحاح عن الصحابة Bهم كانوا يتبركون بأشياء من رسول الله A ففي البخاري عن [ أبي جحيفة Bه قال : .
خرج علينا رسول الله A بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به ] الحديث وفيه : كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه .
وعن المسور Bه في حديث الحديبية : [ وما انتخم النبي A نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ] وخرج غيره من ذلك كثيرا في التبرك بشعره وثوبه وغيرهما حتى أنه مس بإصبعه أحدهم بيده فلم يحلق ذلك الشعر الذي مسه عليه السلام حتى مات .
وبالغ بعضهم في ذلك حتى شرب دم حجامته إلى أشياء كهذا كثيرة فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعا في حق ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم وأن يتبرك بفضل وضوئه ويتدلك بنخامته ويستشفى بآثاره كلها ويرجى نحو مما كان في آثار المتبوع الأصل A .
إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله وهو أن الصحابة Bهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه إذ لم يترك النبي A بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق Bه فهو كان خليفته ولم يفعل به شيء من ذلك ولا عمر Bهما وهو كان في الأمة ثم كذلك عثمان ثم علي ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي A فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء .
أحدهما : أن يعتقدوا فيه الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير لأنه عليه السلام كان نورا كله في ظاهره وباطنه فمن التمس منه نورا وجده على أي جهة التمسه بخلاف غيره من الأمة ـ وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله ـ لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته ولا تقاربه فصار هذا النوع مختصا به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع وإحلال بضع الواهبة نفسها له وعدم وجوب القسم عليه للزوجات وشبه ذلك فعلى هذا المأخذ : لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة .
الثاني : أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفا من أن يجعل ذلك سنة ـ كما تقدم ذكره في اتباع الآثار ـ والنهي عن ذلك أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد بل تتجاوز فيه الحدود وتبالغ بجهلها في التماس البركة حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد فربما اعتقد فيالمتبرك به ما ليس فيه وهذا التبرك هو أصل العبادة ولأجله قطع عمر Bه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله A بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية ـ حسبما ذكره أهل السير ـ فخاف عمر Bه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم .
ولقد حكى الفرغاني مذيل تاريخ الطبري عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته حتى ادعوا فيه الإلهية تعالى الله عنا يقولون علوا كبيرا .
ولأن الولاية وإن ظهر لها في الظاهر آثار فقد يخفى أمرها لأنها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله فربما ادعيت الولاية لمن ليس بولي أو ادعاها هو لنفسه أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة لا من باب الكرامة أو من باب السحر أو الخواص أوغير ذلك والجمهور لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر فيعظمون من ليس بعظيم ويقتدون بمن لا قدوة فيه ـ وهو الضلال البعيد ـ إلى غير ذلك من المفاسد وتركوا العمل بما تقدم ـ وإن كان له أصل ـ لما يلزم عليه من الفساد في الدين .
وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثاني أرجح لما ثبت في الأصول العلمية أن كل قربة أعطيها الني A فإن لأمته أنموذجا منها ما لم يدل دليل على الاختصاص .
إلا أن الوجه الأول راجح من جهة أخرى وهو إطباقهم على الترك إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعمل بع بعضهم بعده أو عملوا به ولو في بعض الأحوال إما وقوفا مع أصل المشروعية وإما بناء على اعتقاد انتقاء العلة الموجبة للامتناع .
وقد خرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس ين يزيد عن ابن شهاب قال : .
حدثني رجل من الأنصار : .
[ أن رسول الله A كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم : لم تفعلون هذا ؟ قالوا : نلتمس الطهور والبركة بذلك فقال رسول الله A : من كان منكم يحب الله ورسوله فليصدق الحديث وليؤد الأمانة ولا يؤذ جاره ] فإن صح هذا النقل فهو مشعر بأن الأولى تركه وأن يتحرى ما هو آكد والأحرى من وظائف التكليف ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها أو دعاء الرجل لغيره على وجه سيأتي بحول الله .
فقد صارت المسألة من أصلها دائرة بين أمرين : أن تكون مشروعة فدخلت تحت حكم المتشابه أو تكون غير مشروعة والله أعلم