تشعب طرق الحق وبيان كون الشريعة حجة على الخلق .
فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم برهم وفاجرهم لم يختص بها أحدا دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة حتى إن المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها .
فأنت ترى أن نبينا محمدا A مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته مما اختص بد دون أمته أو كان عاما له ولأمته كقوله تعالى : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك } إلى قوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } إلى قوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } وقوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } وقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } إلى سائر التكاليف التي وردت على كل مكلف والنبي فيهم فالسريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين وهي الطرق الموصل والهادي الأعظم .
ألا ترى إلى قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فهو E أول من هداه الله بالكتاب والإيمان ثم من اتبعه فيه والكتاب هو الهادي والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدي والخلق مهتدون بالجميع ولما استنار قلبه وجوارحه ـ E ـ وباطنه وظاهره بنور الحق علما وعملا صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم حيث خصه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاء أوليا لا من جهة كونه بشرا عاقلا ـ مثلا ـ لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ولا لكونه من قريش ـ مثلا ـ دون غيرهم وإلا لزم ذلك في كل قرشي ولا لكونه من بني عبد المطلب ولا لكونه عربيا ولا لغير ذلك بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن حتى نزل فيه : { وإنك لعلى خلق عظيم } وإنما كان خلقه القرآن لأنه حكم الوحي على نفسه حتى صار في علمه وعمله على وفقه فكان الوحي حاكما وافقا قائلا وكان هو E مذعنا ملبيا نداءه واقفا عند حكمه وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر وبالنهي وهو منته وبالوعظ وهو متعظ وبالتخوف وهو أول الخائفين وبالترجية وهو سائق دابة الراجين .
وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه ودلالة له على الصراط المستقيم الذي سار عليه السلام ولذلك صار عبد الله حقا وهو أشرف اسم تسمى به العباد فقال الله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } وما أشبه ذلك من الآيات التي وقع مدحه بصحة العبودية .
وإذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارا يهتدون بها إلى الحق وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولا واعتقادا وعملا لا بحسب عقولهم فقط ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط لأن الله تعالى إنما اثبت الشرف لا غيرها لقوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف مبلغ الأعلى في اتباعها فالشرف إذا إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة