السلف ـ آثارهم في عدم تحكيم عقولهم في صفات الله وعقائد دينه .
فالحاصل من هذه القصة أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله بل يكون ملبيا من وراء وراء .
ثم نقول : إن هذا هو المذهب للصحابة Bهم وعليه دأبوا وإياه اتخذوا طريقا إلى الجنة فوصلوا ودل على ذلك من سيرهم أشياء : .
منها : أنه لم ينكر أحد مهنم ما جاء من ذلك بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله A ولم يصادموه ولا عارضوه بإشكال ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك دل على أنهم آمنوا به وأقروه كما جاء من غير بحث ولا نظر .
كان مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل فأما الكلام في الدين وفي الله D فالسكوت أحب إلي لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل .
قال ابن عبد البر : قد بين مالك C أن الكلام فيما تحته عمل هو مباح عنده وعند أهل بلده ـ يعني العلماء منهم وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه وضرب مثلا نحو رأي جهم والقدر ـ قال ـ والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى وإنما خالف في ذلك أهل البدع ـ وأما الجماعة فعلى ما قال مالك C إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع في درء الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه وخشي ضلالة عامة أو نحو هذا .
وقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال لي : يا أبا موسى ! لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه .
وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في المسائل إلا وفي قلبه دغل .
( وقال ) عن الحسن بن زياد الؤلؤي ـ وقال له رجل في زفر بن الهذيل ـ أكان ينظر في الكلام ؟ فقال : سبحان الله ما أحمقك ! ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وابا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم ـ همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم .
وقال ابن عبد البر : أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في الأمصار في جميع طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالاتفاق والميز والفهم .
وعن أبي الزناد أنه قال : وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ونتعلمها شبيها بتعلمنا آي القرآن وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي وينهون عن لقائهم ومجالستهم ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسوله وما توفي رسول الله A حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله كراهية لذلك .
[ ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم ] .
وعن عمر بن الخطاب Bه قال : اتقوا الله في دينكم قال سحنون : يعني الانتهاء عن الجدل فيه وخرج ابن وهب عن عمر أيضا : إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع وهو القائل في قصيدته في السنة : .
( ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح ) .
وعن الحسن قال : إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا .
وعن مسروق قال : من رغب برأيه عن أمر الله يضل وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول : السنن السنن إن السنن قوام الدين وعن هشام بن عروة قال : إن بني إسرائيل لم يزل أمرهم معتدلا حتى نشأ فيهم مولدون سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا .
فهذه الآثار وأشباهها تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبي A .
وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالرأي المذموم في هذه الأخبار البدع المحدثة في الاعتقاد كرأي جهم وغيره من أهل الكلام لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم في رد الأحاديث فقالوا : لا يجوز أن يرى الله في الآخرة أنه تعالى يقول : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف } الآية .
فردوا قوله E : [ إنكم ترون ربكم يوم القيامة ] وتأولوا قول اله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } وقالوا : لا يجوز أن يسأل الميت في قبره لقول الله تعالى : { أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } فردوا الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته وردوا الأحاديث في الشفاعة على تواترها وقالوا : لن يخرج من النار من دخل فيها : وقالوا : لا نعرف حوضا ولا ميزانا ولا نعقل ما هذا وردوا السنن في ذلك كله ـ برأيهم وقياسهم ـ إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم في صفة الباري وقالوا : العلم محدث في حال حدوث المعلوم لأنه لا يقع علم إلا على معلوم فرارا من قدم العالم ـ في زعمهم ـ .
وقال جماعة : الرأي المذموم المراد به الرأي المبتدع وشبهه من ضروب البدع وهذا القول أعم من الأول لأن الأول خاص بالاعتقاد وهذا عام في العمليات وغيرها .
وقال آخرون ـ قال ابن عبد البر : وهم الجمهور ـ إن المراد به القول في الشرع بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصولها فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل قالوا : وفي الاشتغال بهذا تعطيل السنن والتذرع إلى جهلها .
وهذا القول غير خارج عما تقدم وإنما الفرق بينهما أن هذا منهي عنه للذريعة إلى الرأي المذموم وهو معارضة المنصوص لأنه إذا لم يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إلى الرأي فلحق بالأولين الذين عارضوا السنن حقيقة فجميع ذلك راجع إلى معنى واحد وهو إعمال النظر العقلي مع طرح السنن إما قصدا أو غلطا وجهلا والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة .
فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء في السنن بآرائهم علموا معناه أو جهلوه جرى لهم على معهودهم أو لا وهو المطلوب من نقله وليعتبر فيه من قدم الناقص ـ وهو العقل ـ على الكامل ـ وهو الشرع ـ ورحم الله الربيع بن خثيم حيث يقول : يا عبد الله ! ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } .
وعن معمر بن سليمان عن جعفر عن رجل من علماء أهل المدينة قال : إن الله علم علما علمه العباد وعلم علما لم يعلمه العباد فمن تكلف العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعدا قال : والقدر منه .
وقال الأوزاعي : كان مكحول و الزهري يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها : ومثله عن مالك و الأوزاعي و سفيان بن سعيد و سفيان بن عيينة و معمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم أمرواها كما جاءت نحو الحديث : .
[ التنزل ] .
[ وخلق آدم على صورته وشبههما ] وحديث مالك في السؤال عن الاستواء مشهور .
وجميع ما قالوه مستمد من معنى قول الله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } الآية ثم قال : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } فإنها صريحة في هذا الذي قررناه فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه فالوقف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله A إذ لو كان من شأنهم اتباع الرأي لم يذموه ولم ينهوا عنه لأن أحدا لا يرتضي طريقا ثم ينهى عن سلوكه كيف وهم قدوة الأمة باتفاق المسلمين ! .
وروي عن الحسن كان في مجلس فذكر فيه أصحاب محمد A فقال : إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة تبيه A فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ـ ورب الكعبة ـ على الهدي المستقيم .
وعن حذيفة أنه كان يقول : اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا أو شمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا .
وعن ابن مسعود : من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد A فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها خلالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه A وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم .
والآثار في هذا المعنى كثيرة جميعها يدل على الاقتداء بهم والاتباع لطريقهم على كل حال وهو طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق في قوله : [ ما أنا عليه وأصحابي ]