والأمر الثاني من احتمال التكفير أن يكون مقيدا بالمشيئة .
فإن قيل : ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة قيل : بلى قد قال به طائفة منهم في بعض الكبائر في مشيئة الله تعالى لكن دلهم الدليل في خصوص كبائر على أنها خارجة عن ذلك الحكم ولا بد من ذلك فإن المتبع هو الدليل فكما دلهم على أن أهل الكبائر على الجملة في المشيئة كذلك دلهم على تخصيص ذلك العموم الذي في قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فإن الله تعالى قال : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } فأخبر أولا أن جزاءه جهنم وبالغ في ذلك بقوله تعالى : { خالدا فيها } عبارة عن طول المكث فيها ثم عطف بالغضب ثم بلعنته ثم ختم ذلك بقوله تعالى : { وأعد له عذابا عظيما } والإعداد قبل البلوغ إلى المعد مما يدل على حصوله للمعد له ولأن القتل اجتمع فيه حق لله وحق المخلوق وهو المقتول .
قال ابن رشد : ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم وهذا مما لا سبيل إلى القاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول حيا فيعفو عنه نفسه .
وأولى من هذه العبارة أن نقول : ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على المجني عليه : إما ببذل القيمة له وهو أمر لا يمكن بعد فوت المقتول فكذلك لا يمكن في صاحب البدعة من جهة الأدلة فراجع ما تقدم في الباب الثاني تجد فيه كثيرا من التهديد والوعيد المخوف جدا .
وانظر في قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } فهذا وعيد ثم قال تعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وتسويد الوجوه علامة الخزي ودخول النار ثم قال تعالى : { أكفرتم بعد إيمانكم } وهو تقريع وتوبيخ ثم قال تعالى : { فذوقوا العذاب } وهو تأكيد آخر .
وكل هذا التقرير بناء على أن المراد بالآيات أهل القبلة من أهل البدع .
لأن المبتدع إذا اتبع في بدعته لم يمكنه التلافي ـ غالباـ فيها ولم يزل أثرها في الأرض يستطيل إلى قيام الساعة وذلك كله بسببه فهي أدهى من قتل النفس .
قال مالك رحمة الله عليه : إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئا وجبت له ارفع المنازل لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء وصاحب البدعة ليس هو منها على رجاء إنما يهوى به في نار جهنم فهذا منه نص في إنفاذ الوعيد .
والثاني : أن يكون مقيدا بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار وإنما حمل قوله : [ كلها في النار ] أي هي ممن يستحق النار كما قالت الطائفة الأخرى في قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالدا فيها } أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه فإن عفا عنه فله العفو إن شاء الله لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وإن لم يكن الاستدراك كذلك يصح أن يقال هنا بمثله