الباب الثاني في النواهي وفيه مباحث ثلاثة .
البحث الأول : اعلم أن النهي في اللغة معناه المنع يقال نهاه عن كذا أي منعه عنه ومنه سمي العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب ويمنعه عنه وهو في الاصطلاح القول الإنشائي الدال على طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء فخرج الأمر لأنه طلب فعل غير كف وخرج الالتماس والدعاء لأنه لا استعلاء فيهما وأورد على هذا الحد قول القائل كف بقيد عن كذا وأجيب بأنه يلتزم كونه من جملة أفراد النهي فلا يرد النقض به ولهذا قيل إن اختلافهما باختلاف الحيثيات والاعتبارات فقولنا كف عن الزنا باعتبار الإضافة إلى الكف أمر وإلى الزنا نهي وأوضح صيغ النهي لا تفعل كذا ونظائرها ويلحق بها اسم لا تفعل من أسماء الأفعال كمه فإن معناه لا تفعل وصه فإن معناه لا تتكلم وقد تقدم في حد الأمر ما إذا رجعت إليه عرفت ما يريد في هذا المقام من الكلام اعتراضا ودفعا .
البحث الثاني : اختلفوا في معنى النهي الحقيقي فذهب الجمهور إلى أن معناه الحقيقي هو التحريم وهو الحق ورد فيما عداه مجازا كما في قوله صضص [ لا تصلوا في مبارك الإبل ] فإنه للكراهة وكما في قوله تعالى : { ربنا لا تزغ قلوبنا } فإنه للدعاء وكما في قوله تعالى : { لا تسألوا عن أشياء } فإنه للإرشاد وكما في قول السيد لعبده الذي لم يمتثل أمره لا تمتثل أمري فإنه للتهديد وكما في قوله تعالى : { ولا تمدن عينيك } فإنه للتحقير وكما في قوله تعالى : { ولا تحسبن الله غافلا } فإنه لبيان العاقبة وكما في قوله تعالى : { لا تعتذروا اليوم } فإنه للتأييس وكما في قولك لمن يساويك لا تفعل فإنه للالتماس والحاصل أنه يرد مجازا لما ورد له الأمر كما تقدم ولا يخالف الأمر إلا في كونه يقتضي التكرار في جميع الأزمنة وفي كونه للفور فيجب ترك الفعل في الحال قيل ويخالف الأمر أيضا في كون تقدم الوجوب قرينة دالة على أنه للإباحة ونقل الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني الإجماع على أنه لا يكون تقدم الوجوب قرينة للإباحة وتوقف الجويني في نقل الإجماع ومجرد هذا التوقف لا يثبت له في نقل الأستاذ واحتج القائلون بأنه حقيقة في التحريم بأن العقل يفهم الحتم من الصيغة المجردة عن القرينة وذلك دليل الحقيقة واستدلوا أيضا باستدلال السلف بصيغة النهي المجردة عن التحريم وقيل أنه حقيقة في الكراهة واستدلوا على ذلك بأن النهي إنما يدل على مرجوحية المنهي عنه وهو لا يقتضي التحريم وأجيب بمنع ذلك بل السابق إلى الفهم عند التجرد هو التحريم وقيل مشترك بين التحريم والكراهة فلا يتعين أحدهما إلا بدليل وإلا كان جعله لأحدهما ترجيحا من غير مرجح وقالت الحنفية إنه يكون للتحريم إذا كان الدليل قطعيا ويكون للكراهة إذا كان الدليل ظنيا ورد بأن النزاع إنما هو في طلب الترك وهذا طلب قد يستفاد بقطعي فيكون قطعيا وقد يستفاد بظني فيكون ظنيا .
البحث الثالث : في اقتضاء النهي للفساد فذهب الجمهور إلى أنه إذا تعلق النهي بالفعل بأن طلب الكف عنه فإن كان لعينه أي لذات الفعل أو لجزئه وذلك بأن يكون منشأ النهي قبحا ذاتيا كان النهي مقتضيا للفساد المرادف للبطلان سواء كان ذلك الفعل حسيا كالزنا وشرب الخمر أو شرعيا كالصلاة والصوم والمراد عندهم أنه يقتضيه شرعا لا لغة وقيل إنه يقتضي الفساد لغة كما يقتضيه شرعا وقيل أن النهي لا يقتضي الفساد إلا في العبادات فقط دون المعاملات وبه قال أبو الحسين البصري والغزالي والرازي وابن الملاحي والرصاص واستدل الجمهور على اقتضائه للفساد شرعا بأن العلماء في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلون به على الفساد في أبواب الربويات والأنكحة والبيوع وغيرها وأيضا لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمة تدل عليها الصحة واللازم باطل لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا فكان فعله كلا فعل وامتنع النهي عنه لخلوه عن الحكمة وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى لفوات الزائد من مصلحة الصحة وهي مصلحة خالصة وإن كانت راجحة امتنعت الصحة لخلوه عن المصلحة أيضا بل لفوت قدر الرجحان من مصلحة النهي واستدلوا على عدم اقتضائه للفساد لغة بأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا واستدل القائلون بأنه يقتضيه لغة كما يقتضيه شرعا بأن العلماء لم يزالوا يستدلون به على الفساد وأجيب بأنهم إنما استدلوا به على الفساد لدلالة الشرع عليه لا لدلالة اللغة واستدلوا ثانيا بأن الأمر يقتضي الصحة لما تقدم والنهي نقيضه والنقيضان لا يجتمعان فيكون النهي مقتضيا للفساد وأجيب بأن الأمر يقتضي الصحة شرعا لا لغة فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع واستدال القائلون بأنه لا يقتضي الفساد إلا في العبادات دون المعاملات بأن العبادات دون المعاملات بأن العبادات المنهى عنها لو صحت لكانت مأمورا بها ندبا لعموم أدلة مشروعية العبادات فيجتمع النقيضان لأن الأمر لطلب الفعل والنهي لطلب الترك وهو محال وأما عدم اقتضائه للفساد في غير العبادات فلأنه لو اقتضاه في غيرها لكان غسل النجاسة بماء مغصوب والذبح بسكين مغصوبة وطلاق البدعة والبيع في وقت النداء والوطء في زمن الحيض غير مستتبعة لآثارها من زوال النجاسة وحل الذبيحة وأحكام الطلاق والملك وأحكام الوطء واللازم باطل فالملزوم مثله وأجيب بمنع كون النهي في الأمور المذكورة لذات الشيء أو لجزئه بل لأمر خارج ولو سلم لكان عدم اقتضائها للفساد لدليل خارجي فلا يرد النقيض بها وذهب جماعة من الشافعية والحنفية والمعتزلة إلى أنه لا يقتضي الفساد لا لغة ولا شرعا لا في العبادات ولا في المعاملات قالوا لأنه لو دل على الفساد لغة أو شرعا لناقض التصريح بالصحة لغة أو شرعا باطل أما الملازمة فظاهرة وأما بطلان اللازم فلأن الشارع لو قال نهيتك عن الربا نهي تحريم ولو فعلت لكان البيع المنهى عنه موجبا للملك لصح من غير تناقض لا لغة ولا شرعا وأجيب بمنع الملازمة لأن التصريح بخلاف النهي قرينة صارفة له عن الظاهر ولم ندع إلا أن ظاهره الفساد فقط وذهبت الحنفية إلى ما لا تتوقف أن معرفته على الشرع كالزنا وشرب الخمر يكون النهي عنه لعينه ويقتضي الفساد إلا أن يقوم الدليل على أنه منهي عنه لوصفه أو المجاور له فيكون النهي حينئذ عنه لغيره فلا يقتضي الفساد كالنهي عن قربان الحائض وأما الفعل الشرعي وهو ما يتوقف معرفته على الشرع فالنهي عنه لغيره فلا يقتضي الفساد ولم يستدلوا على ذلك بدليل مقبول والحق أن كل مهي من غير فرق بين العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي عنه وفساده المرادف للبطلان اقتضاء شرعيا ولا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك فيكون هذا الدليل قرينة صارفة له من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي ومما يستدل به على هذا ما ورد في الحديث المتفق عليه وهو قوله صضص [ كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد ] والمنهي عنه ليس عليه أمرنا فهو رد وما كان ردا أي مردودا كان باطلا وقد أجمع العلماء مع اختلاف أعصارهم على الاستدلال بالنواهي على أن المنهي عنه ليس من الشرع وأنه باطل لا يصح وهذا هو المراد بكون النهي مقتضيا للفساد وصح عنه صضص أنه قال : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ] فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه وذلك هو المطلوب ودع عنك ما روعوا به من الرأي هذا إذا كان النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه أما لو كان النهي عنه لوصفه وذلك نحو النهي عن عقد الربا لاشتماله على الزيادة فذهب الجمهور إلى أنه لا يدل على فساد المنهي عنه بل على فساد نفس الوصف واحتجوا لذلك بأن النهي عن الشيء لوصفه لو دل على فساد الأصل لناقض التصريح بالصحة كما مر وأيضا كان يلزم أن لا يعتبر طلاق الحائض ولا ذبح ملك الغير لحرمته إجماعا وذهب جماعة إلى أنه يقتضي فساد الأصل محتجيين بأن النهي ظاهر في الفساد من غير فرق بين كونه لذاته أو لصفاته وما قيل من جواز التصريح بالصحة فملتزم إن وقع ويكون دليلا على خلاف ما يقتضيه الظاهر وقد استدل أهل العلم على فساد صوم يوم العيد بالنهي الوارد عن صومه وليس ذلك لذاته ولا لجزئه لأنه صوم وهو مشروع بل لكونه صوما في يوم العيد وهو وصف لذات الصوم قال بعض المحققين من أهل الأصول أن النهي عن الشيء لوصفه هو أن ينهي عن الشيء مقيدا بصفة نحو لا تصل كذا ولا تبع كذا وحاصله ما ينهي عن وصفه لا ما يكون الوصف علة للنهي وأما النهي عن الشيء لغيره نحو النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة فقيل لا يقتضي الفساد لعدم مضادته لوجوب أصله لتغاير المتعلقين والظاهر أنه يضاد وجود أصله لأن التحريم هو إيقاع الصلاة في ذلك المكان كما صرح به الشافعي وأتباعه وجماعة من أهل العلم فهو كالنهي عن الصوم في يوم العيد لا فرق بينهما وأما الحنفية فيفرقون بين النهي عن الشيء لذاته ولجزئه ولوصف لازم ولوصف مجاور ويحكمون في بعض بالصحة وفي بعض بالفساد في الأصل أو في الوصف ولهم في ذلك فروق وتدقيقات لا تقوم بمثلها الحجة ثم النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه الذي لا يتم إلا به يقتضي فساده في جميع الأحوال والأزمنة والنهي عنه للوصف الملازم يقتضي فساده ما دام ذلك الوصف والنهي عنه لوصف مفارق أو لأمر خارج يقتضي النهي عنه عند إيقاعه متصفا بذلك الوصف وعند إيقاعه في ذلك الأمر الخارج عنه لأن النهي عن إيقاعه مقيدا بهما يستلزم فساده ما داما قيدا له