فرع إجماع العوام عند خلو الزمان عن مجتهد عند من قال بجواز خلوه عنه هل يكون حجة أم لا .
فالقائلون باعتبارهم في إجماع مع وجود المجتهدين يقولون بأن إجماعهم حجة والقائلون بعدم اعتبارهم لا يقولون بأنه حجة وأما من قال بأن الزمان لا يخلو عن قائم بالحجة فلا يصح عنده هذا التقدير .
البحث الثامن عشر : الإجماع المعتبر في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دون من عداهم فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين ونحو ذلك ومن عدا أهل ذلك الفن هو في حكم العوام فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غير أهل الفن ومن لا فلا وخالف في ذلك ابن جني فقال في كتاب الخصائص إنه لا حجة في إجماع النحاة قال الزركشي في البحر ولا خلاف في اعتبار قول المتكلم في الكلام والأصولي في الأصول وكل واحد يعتبر قوله إذا كان من أهل الاجتهاد في ذلك الفن وأما الأصولي الماهر المتصرف في الفقه ففي اعتبار خلافه في الفقه وجهان حكاهما الماوردي وذهب القاضي إلى أن خلافه معتبر قال الجويني وهو الحق وذهب معظم الأصوليين منهم أبو الحسن ابن القطان إلى أن خلافه لا يعتبر لأنه ليس من المفتين ولو وقعت له واقعة لزم أن يستفتي المفتي فيها قال الكيا والحق قول الجمهور لأأن من أحكم الأصوليين فهو مجتهد فيهما قال الصيرفي في كتاب الدلائل إجماع العلماء لا مدخل لغيرهم فيه سواء المتكلم وغيره وهم الذين تلقنوا العلم من الصحابة وإن اختلفت آراؤهم وهم القائمون بعلم الفقه وأما من انفرد بالكلام لم يدخل في جملة العلماء فلا يعد خلافا على من ليس مثله وإن كانوا حذاقا بدقائق الكلام .
البحث التاسع عشر : إذا خالف أهل الإجماع واحد من المجتهدين فقط فذهب الجمهور إلى أنه لا يكون إجماعا ولا حجة قال الصيرفي ولا يقال لهذا شاذ لأن الشاذ من كان في الجملة ثم شذ كيف يكون محجوبا بهم ولا يقع اسم الإجماع إلا به قال إلا أن يجمعوا على شيء من جهة الحكاية فيلزمه قبول قولهم أما من جهة الاجتهاد فلا لأن الحق قد يكون معه وقال الغزالي والمذهب انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل ونقله الآمدي عن محمد بن جرير الطبري وأبي الحسين الخياط من معتزلة بغداد قال الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين والشرط أن يجمع جمهور تلك الطبقة ووجوههم ومعظمهم ولسنا نشترط قول جميعهم وكيف نشترط ذلك وربما يكون في أقطار الأرض من المجتهدين من لم نسمع به فإن السلف الصالح كانوا يعلمون ويتسترون بالعلم فربما كان الرجل قد أخذ الفقه الكثير ولا يعلم به جاره قال والدليل على هذا أن الصحابة لما استخلفوا أبا بكر انعقدت خلافته بإجماع الحاضرين ومعلوم أن من الصحابة من غاب قبل وفاة النبي صضص إلى بعض البلدان ومن حاضري المدينة من لم يحضر البيعة ولم يعتبر ذلك مع اتفاق الأكثرين قال الصفي الهندي والقائلون بأنه إجماع مرادهم أنه ظني لا قطعي واحتج ابن جرير على عدم اعتبار قول الأقل بارتكابه الشذوذ المنهي عنه وأجيب بأن الشذوذ المنهي عنه هو ما يشق عصا المسلمين لا في أحكام الاجتهاد وقال الأستاذ أبو إسحاق أن ابن جرير قد شذ عن الجماعة في هذه المسألة فينبغي أن لا يعتبر خلافه وقيل إنه حجة وليس بإجماع ورجحه ابن الحاجب فإنه قال لو قدر المخالف مع كثرة المجمعين لم يكن إجماعا قطعيا والظاهر أنه حجة لبعد أن يكون المرجح متمسك المخالف وقيل إن عدد الأقل أن بلغ عدد التواتر لم ينعقد إجماع غيرهم وإن كانوا دون عدد التواتر انعقد الإجماع دونهم كذا حكاه الآمدي قال القاضي أبو بكر أنه الذي يصح عن ابن جرير وقيل أتباع الأكثر أولى ويجوز خلافه حكاه الهندي وقيل أنه لا ينعقد إجماع مع مخالفة الاثنين الواحد حكاهما الزركشي في البحر وقيل إن استوعب الجماعة الاجتهاد فيما يخالفهم كان خلاف المجتهد معتدا بن كخلاف ابن عباس في العول وإن أنكروه لم يعتد بخلافه وبه قال أبو بكر الرازي أبو عبد الله الجرجاني من الحنفية قال شمس الأمة السرخسي إنه الصحيح .
البحث الموفى عشرين : الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي ونقل عن الجمهور اشتراط عدد التواتر وحكى الرازي في المحصول عن الأكثر أنه ليس بحجة فقال الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة لأكثر الناس لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياسا على السنة ولأنا بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية فكذا القول في تفاصيله انتهى وأما عدد أهل الإجماع فقيل لا يشترط بلوغهم عدد التواتر خلافا للقاضي ونقل ابن برهان عن معظم العلماء أنه يجوز انحطاط عددهم عقلا عن عدد التواتر وعن طوائف من المتكلمين أنه لا يجوز عقلا وعلى القول بالجواز فهل يكون إجماعهم حجة أم لا ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه حجة وهو قول الأستاذ أبي إسحاق وقال إمام الحرمين الجويني يجوز ولكن لا يكون إجماعهم حجة المجمعين عند عدد التواتر ما دام التكليف بالشريعة باقيا ومنهم من زعم أن ذلك وإن كان يتصور لكن يقطع بأن ما ذهب إليه دون عدد التواتر ليس سبيل المؤمنين لأن إخبارهم عن إيمانهم لا يفيد القطع فلا تحرم مخالفته ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن يعلم إيمانهم بالقرائن لا يشترط ذلك فيه بل يكفي فيه الظهور لكن الإجماع إنما يكون حجة لكونه كاشفا عن دليل قاطع وهو يوجب كونه متواترا وإلا لم يكن قاطعا فيما يقوم مقام نقله متواترا وهو الحكم بمقتضاه يجب أن يكون صادرا عن عدد التواتر وإلا لم يقطع بوجوده قال الأستاذ وإذا لم يبق في العصر إلا مجتهد واحد فقوله حجة كإجماع ويجوز أن يقال للواحد أمة كما قال تعالى : { إن إبراهيم كان أمة } ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين قال الزركشي في البحر وبه جزم ابن سريج في كتاب الودائع فقال وحقيقة الإجماع هو القول بالحق ولو من واحد فهو إجماع وكذا إن حصل من اثنين أو ثلاثة والحجة على أن الواحد إجماع ما اتفق عليه الناس في أبي بكر Bه لما امتنعت بنو حنيفة من الزكاة فكانت مطالبة أبي بكر لها حقا عند الكل وما انفرد لمطالبتها غيره قال هذا كلامه وخلاف إمام الحرمين فيه أولى وهو الظاهر لأن الإجماع لا يكون إلا من اثنين فصاعدا ونقل ابن القطان عن أبي هريرة أنه حجة قال الكيا المسألة مبنية على تصور اشتمال العصر على المجتهد الواحد والصحيح تصوره وإذا قلنا به ففي انعقاد الإجماع بمجرد قوله خلاف وبه قال الأستاذ أبو إسحاق قال والذي حمله على ذلك أنه لم يكن لاختصاص الإجماع بمحل معنى يدل عليه فسوى بين العدد والفرد وأما المحققون سواء فإنهم يعبرون العدد ثم يقولون المعتبر عدد التواتر فإذا مستند الإجماع مستند إلى طرد العادة بتوبيخ من يخالف العصر الأول وهو يستدعي وفور عدد من الأولين وهذا لا يتحقق فيما إذا كان في العصر إلا مجتهد واحد فإنه لا يظهر فيه استيعاب مدارك الاجتهاد .
خاتمة .
قول القائل لا أعلم خلافا بين أهل العلم في كذا قال الصيرفي لا يكون إجماعا لجواز الاختلاف وكذا قال ابن حزم في الأحكام وقال في كتاب الإعراب أن الشافعي نص عليه في الرسالة وكذلك أحمد بن حنبل وقال ابن القطان قول القائل لا أعلم خلافا إن كان من أهل العلم فهو حجة وإن لم يكن من الذين كشفوا الإجماع والاختلاف فليس بحجة وقال الماوردي إذا قال : لا أعرف بينهم خلافا فإن لم يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط بالإجماع والاختلاف لم يثبت الإجماع بقوله وإن كان من أهل الاجتهاد فاختلف أصحابنا فأثبت الإجماع بقوله وإن كان من أهل الاجتهاد وزعم قوم أن العالم إذا قال لا أعلم خلافا فهو إجماع وهو قول فاسد قال ذلك محمد بن نصر المروزي فإنا لا نعلم أحدا منه لأقاويل أهل العلم ولكن فوق كل ذي علم عليم وقد قال الشافعي في زكاة البقر لا أعلم خلافا في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع والخلاف في ذلك مشهور فإن قوما يرون الزكاة على خمس كزكاة الإبل وقال مالك في موطئه وقد ذكر الحكم برد اليمين وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس ولا بلد من البلدان والخلاف فيه شهير وكان عثمان Bه لا يرى رد اليمين ويقضي بالنكول وكذلك ابن عباس ومن التابعين الحكم وغيره وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وهم كانوا القضاة في ذلك الوقت فإذا كان مثل من ذكرنا يخفي عليه الخلاف فما ظنك بغيره ؟