فصل في العدالة .
وإذ قد تقرر لك أن العدالة شرط فلا بد من معرفة الطريقة التي تثبت بها وأقوى الطرق المفيدة لثبوتها الاختبار في الأحوال بطول الصحابة والمعاصرة والمعاملة فإذا لم يعثر عليه فعل كبيره ولا على ما يقتضي التهاون بالدين والتساهل في الرواية فهو ثقة وإلا فلا ثم التزكية وهي إما أن تكون بخبر عدلين مع ذكر السبب ولا خلاف أن ذلك تعديل أو بدون ذكره والجمهور على قبوله ويكفي أن يقول هو عدل قال القرطبي لا بد أن يقول هذا عدل رضى ولا يكفي الاقتصار على أحدهما ولا وجه لهذا بل الاقتصار على أحدهما أو على ما يفيد مفاد أحدهما يكفي عند من يقبل الإجمال وأما التعديل من واحد فقط فقيل لا يقبل من غير فرق بين الرواية والشهادة وحكاه القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء قال ابن الأنباري وهو قياس مذهب مالك وقيل يقبل قال القاضي والذي يوجبه القياس وجوب قبول كل عدل مرضي ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا شاهدا أو مخبرا وقيل يشترط في الشهادة اثنان ويكفي في الرواية واحد كما يكفي في الأصل لأن الفرع لا يزيد على الأصل وهو قول الأكثرين كما حكاه الآمدي والصفي الهندي قال ابن الصلاح وهو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره لأن العدد لا يشترط في قبول الخبر فلا يشترط في جرح رواته ولا في تعديلهم بخلاف الشهادة وأطلق في المحصول قبول تزكية المرأة وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنه لا يقبل النساء في التعديل لا في الشهادة ولا في الرواية ثم اختار قبول قومه لها فيهما كما يقبل روايتها وشهادتها انتهى ولا بد من تقييد هذا بكونها ممن تجوز لها مصاحبته والاطلاع على أحواله أو يكون الذي وقعت تزيكة المرأة له مثلها ويدل على هذا سؤاله صضص للجارية في قصة الإفك عن حال أم المؤمنين عائشة .
وقد تكون التزكية بأن يحكم حاكم بشاهدته كذا قال الجويني والقاضي أبو بكر وغيرهما قال القاضي وهو أقوى من تزكيته باللفظ وحكى الصفي الهندي الاتفاق على هذا قال لأنه لا يحكم بشهادته إلا وهو عدل عنده وقيده الآمدي بما إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب قال ابن دقيق العيد وهذا إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه أما إذا أجزناه فعلمه بالشهادة ظاهرا يقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطنا .
ومن طرق التزكية الاستفاضة فيمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة فإن ذلك يكفي قال ابن الصلاح وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي وعليه الاعتماد في أصول الفقه وممن ذكره من المحدثين الخطيب ومثله بنحو مالك وشعبة والسفيانين وأحمد وابن معين وابن المديني وغيرهم قال القاضي أبو بكر الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهورين بالعدالة وكأن أمرهما متشكلا ملتبسا وصرح بأن الاستفاضة أقوى من تقوية الواحد والاثنين قال ابن عبد البر كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله صضص يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتبعه على ذلك جماعة من المغاربة وهذا الحديث رواه العقيلي في ضعفائه من جهة ابن رفاعة السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري وقال لا يعرف إلا به وهو مرسل أو معضل ضعيف وإبراهيم قال فيه القطان لا نعرفه ألبتة في شيء من العلم غير هذا وقال الخلال في كتاب العلل : سئل أحمد عن هذا الحديث فقيل له : ترى أنه موضوع ؟ فقال : لا هو صحيح قال ابن الصلاح وفيما قاله اتساع غير مرضي .
ومن طرق التزكية العمل بخبر الراوي حكاه أبو الطيب الطبري عن الشافعية ونقل فيه الآمدي الاتفاق واعترض عليه بأنه قد حكى الخلاف فيه القاضي والغزالي في المنخول وقال الجويني فيه أقوال : أحدها أنه تعديل له والثاني أن ليس بتعديل والثالث قال وهو الصحيح أنه إن أمكن أنه عمل بدليل آخر ووافق عليه الخبر الذي رواه فعمله ليس بتعديل وإن كان العمل بذلك الخبر من غير أن يمكن تجويز أنه عمل بدليل آخر فهو تعديل واختار هذا القاضي في التقريب قال وفرق بين قولنا عمل بالخبر وبين قولنا بموجب الخبر فإن الأول يقتضي أنه مستنده والثاني لا يقتضي ذلك لجواز أن يعمل به لدليل آخر وقال الغزالي إن أمكن حمله على الاحتياط فليس بتعديل وإلا فهو تعديل وكذا قال الكيا الطبري ويشترط في هذه الطريقة أن لا يوجد ما يقوي ذلك الخبر فإن وجد ما يقويه من عموم أو قياس وعلمنا أن العمل بخبره لم يكن لا لاعتضاده بذلك فليس بتعديل .
ومن طريقة التزكية أن يروي عنه من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل كيحيى بن سعيد القطان وشعبة ومالك فإن ذلك تعديل كما اختاره الجويني وابن القشيري والغزالي والآمدي والصفي الهندي وغيرهم قال الماوردي هو قول الحذاق ولا بد في هذه الطريقة من أن يظهر أن الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل ظهورا بينا إما بتصريحه بذلك أو بتتبع عادته بحيث لا تختلف في بعض الأحوال فإن لم يظهر ذلك ظهورا بينا فليس بتعديل فإن كثيرا من الحفاظ يروون أحاديث الضعفاء للاعتبار ولبيان حالها ومن هذه الطريقة قولهم رجاله رجال الصحيح وقولهم روى عنه البخاري ومسلم أو أحدهما .
فرع .
اختلف أهل العلم في تعديل المبهم كقولهم : « حدثني الثقة أو حدثني العدل » فذهب جماعة إلى عدم قبوله ومنهم أبو بكر القفال الشاشي والخطيب البغدادي والصيرفي والقاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والماوردي والروياني وقال أبو حنيفة يقبل والأول أرجح لأنه وإن كان عدلا عنده فربما لو سماه كان مجروحا عند غيره قال الخطيب لو صرح بأن جميع شيوخه ثقات ثم روى عمن لم يسمه لم نعمل بروايته لجواز أن نعرفه إذا ذكره بخلاف العدالة قال نعم لو قال العالم كل ما أروي عنه وأسميه فهو عدل رضى مقبول الحديث كان هذا القول تعديلا لكل من روى عنه وسماه كما سبق انتهى ومن هذا قول الشافعي في مواضع كثيرة حدثني الثقة وكذا كان يقول مالك وهذا إذا لم يعرف من لم يسمه أما إذا عرف بقرينة حال أو مقال كان كالتصريح باسمه فينظر فيه قال أبو حاتم إذا قال الشافعي أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب فهو ابن أبي فديك وإذا قال أخبرني الثقة عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان وإذا قال أخبرني الثقة عن الوليد بن كثير فهو عمرو بن أبي سلمة وإذا قال أخبرني الثقة عن ابن جريح فهو مسلم بن خالد الزنجي وإذا قال أخبرني الثقة عن صالح مولى التوأمة فهو إبراهيم بن أبي يحيى .
فرع آخر .
هل يقبل الجرح والتعديل من دون ذكر السبب أم لا ؟ فذهب جماعة إلى أنه لا بد من ذكر السبب فيهما وذهب آخرون إلى أنه لا يجب ذكر السبب فيهما إذا كان بصيرا بالجرح والتعديل واختار هذا القاضي أبو بكر وذهب جماعة إلى أنه يقبل التعديل من غير ذكر السبب بخلاف الجرح فإنه يحصل بأمر واحد وأيضا سبب الجرح مختلف فيه بخلاف سبب التعديل أو إلى هذا ذهب الشافعي قال القرطبي وهو الأكثر من قول مالك قال الخطيب وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم وذهب جماعة إلى أنه يقبل الجرح من غير ذلك السبب ولا يقبل التعديل إلا بذكر السبب قالوا لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الظاهر والحق أنه لا بد من ذكر السبب في الجرح والتعديل لأن الجارح والمعدل قد يظنان ما ليس بجارح جارحا وقد يظنان ما لا يستقل بإثبات العدالة تعديلا ولا سيما مع اختلاف المذاهب في الأصول والفروع فقد يكون ما أبهمه الجارح من الجرح هو مجرد كونه على غير مذهبه وعلى خلاف ما يعتقده وإن كان حقا وقد يكون ما أبهمه من التعديل هو مجرد كونه على مذهبه وعلى ما يعتقده وإن كان في الواقع مخالفا للحق كما وقع ذلك كثيرا وعندي أن الجرح المعمول به هو أن يصفه بضعف الحفظ أو بالتساهل في الرواية أو بالإقدام على ما يدل على تساهله بالدين والتعديل المعمول به هو أن يصفه بالتحري في الرواية والحفظ لما يرويه وعدم الإقدام على ما يدل على تساهله بالدين فاشدد على هذا يديك تنتفع به عند اضطراب أمواج الخلاف فإن قلت إذا ورد الجرح المطلق كقول الجارح ليس بثقة أو ليس بشيء أو هو ضعيف فهل يجوز العمل بالمروي مع هذا أم لا ؟ ( قلت ) يجب حينئذ التوقف حتى يبحث المطلع على ذلك على حقيقة الحال في مطولات المصنفات في هذا الشأن كتهذيب الكمال للمزي وفروعه وكذا تاريخ الإسلام وتاريخ النبلاء والميزان للذهبي .
فرع ثالث .
في تعارض الجرح والتعديل وعدم إمكان الجمع بينهما وفيه أقوال : .
الأول : أن الجرح مقدم على التعديل وإن كان المعدلون أكثر من الجارحين وبه قال الجمهور كما نقله عنهم الخطيب والباجي ونقل القاضي فيه الإجماع قال الرازي والآمدي وابن الصلاح إنه الصحيح لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل قال ابن دقيق العيد وهذا إنما يصح على قول من قال أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا وقد استثنى أصحاب الشافعي من هذا ما إذا جرحه بمعصية وشهد الآخر أن قد تاب منها فإنه يقدم في هذه الصورة التعديل لأن معه زيادة علم .
القول الثاني : أنه يقدم التعديل على الجرح لأن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحا والمعدل إذا كان عدلا لا يعدل إلا بعد تحصيل الموجب لقبوله جرحا حكى هذا الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ولا بد من تقييد هذا القول بالجرح المجمل إذ لو كان الجرح مفسرا لم يتم ما علل به أن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحا إلخ .
القول الثالث : أنه يقدم الأكثر من الجارحين والمعدلين قال في المحصول وعدد المعدل إذا زاد قيل أنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد .
القول الرابع : أنهما يتعارضان فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح حكى هذا القول ابن الحاجب وقد جعل القاضي في التقريب محل الخلاف فيما إذا كان عدم المعدلين أكثر فإن استووا قدم الجرح بالإجماع وكذا قال الخطيب في الكفاية وأبو الحسين بن القطان وأبو الوليد الباجي وخالفهم أبو نصر القشيري فقال محل الخلاف فيما إذا استوى عدد المعدلين والجارحين قال فإن كثر عدد المعدلين وقل عدد الجارحين فقيل العدالة في هذه الصورة أولى انتهى والحق الحقيق بالقبول أن ذلك محل اجتهاد للمجتهد وقد قدمنا أن الراجح أنه لا بد من التفسير في الجرح والتعديل فإذا فسر الجارح ما جرح به والمعدل ما عدل به لم يخف على المجتهد الراجح منهما من المرجوح وأما على القول بقبول الجرح والتعديل المجملين من عارف فالجرح مقدم على التعديل لأن الجارح لا يمكن أن يستند في جرحه إلى ظاهر الحال بخلاف المعدل فقد يستند إلى ظاهر الحال وأيضا حديث من تعارض فيه الجرح والتعديل المجملان قد دخله الاحتمال فلا يقبل .
فصل .
اعلم أن ما ذكرناه من ( وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنما هو في غير الصحابة فأما فيهم فلا لأن الأصل فيهم العدالة فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم ) حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين قال القاضي هو قول السلف وجمهور الخلف وقال الجويني بالإجماع ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتابا وسنة كقوله سبحانه { كنتم خير أمة أخرجت للناس } وقوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي عدولا وقوله { لقد B المؤمنين } وقوله { والسابقون } وقوله { والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } وقوله صضص [ خير القرون قرني ] وقولهم في حقهم [ لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدكم ولا نصيفه ] وهما في الصحيح وقوله [ أصحابي كالنجوم ] على مقال فيه معروف قال الجويني ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة ولو ثبت التوقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ولما استرسلت على سائر الأعصار قال الكيا الطبري وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطئ معذور بل مأجور وكما قال عمر بن عبد العزيز تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا .
القول الثاني : أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم فيبحث عنها قال أبو الحسين بن القطان فوحشي قتل حمزة وله صحبة والوليد شرب الخمر فمن ظهر عليه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على الطريقة انتهى وهذا كلام ساقط جدا فوحشي قتل حمزة وهو كافر ثم أسلم وليس ذلك مما يقدح به فالإسلام يجب ما قبله بلا خلاف وأما صحابيا عن صحبته قال الرازي في المحصول وقد بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم على ما نقله الحافظ عنه في كتاب الفتيا ونحن نذكر ذلك مجملا ومفصلا أما مجملا فإنه روى من طعن بعضهم في بعض أخبارا كثيرة يأتي تفصيلها وقال رأينا بعض الصحابة يقدح في بعض وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذبا وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقا والجواب مجملا أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم عن المطاعن وإذا كان كذلك وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع على الطعن فيهم إلى آخر كلامه .
القول الثالث : أنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها فيجب البحث عنهم وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقا أي من الطرفين لأن الفاسق من الفريقين غير معين وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة وهذا القول في غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها وفيه أيضا أن الباغي غير معين من الفريقين وهو معين بالدليل الصحيح وأيضا التمسك بما تمسكت به طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين .
القول الرابع : أنهم كلهم عدول إلا من قاتل عليا وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة ويجاب عنه بأن تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك جراءة على الله وتهاونا بدينه وجناب الصحبة أمر عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالما وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب ولا غمسوا فيها أيديهم وقد عدلوا تعديلا عاما بالكتاب والسنة فوجب علينا البقاء على والتأويل لما يقتضي خلافه .
القول الخامس : أن من كان مشتهرا منهم بالصحبة والملازمة فهو عدل لا يبحث عن عدالته دون من قلت صحبته ولم يلازم وإن كانت له رواية كذا قال الماوردي وهو ضعيف لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صضص قليلا ثم انصرفوا كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص وأمثالهم قال المزي إنها لم توجد رواية عمن يلمز بالنفاق وقال ابن الأنباري وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك ولله الحمد فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صضص حتى يثبت خلافه ولا التفات إلى ما ذكره أهل السير فإن لا يصح وما يصح فله تأويل صحيح انتهى وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه كان ذلك حجة ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم .
فرع .
إذا عرفت أن الصحابة كلهم عدول فلا بد من بيان من يستحق اسم الصحبة وقد اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه من لقي النبي صضص مؤمنا به ولو ساعة سواء روى عنه أم لا وقيل هو من طالت صحبته وروى عنه فلا يستحق اسم الصحبة إلا من يجمع بينهما وقيل هو من ثبت له أحدهما أما قول الصحبة أو الرواية والحق ما ذهب إليه الجمهور وإن كانت اللغة تقتضي أن الصاحب هو من كثرت ملازمته فقد ورد ما يدل على إثبات الفضيلة لمن لم يحصل له منه إلا مجرد اللقاء القليل والرؤية ولو مرة وقد ذكر بعض أهل العلم اشتراط الإقامة مع النبي صضص سنة فصاعدا أو الغزو معه روي ذلك عن سعيد بن المسيب وقيل ستة أشهر ولا وجه لهذين القولين لاستلزامهما خروج جماعة من الصحابة الذين رووا عنه ولم يبقوا الدية إلا دون ذلك وأيضا لا يدل عليهما دليل من لغة ولا شرع وحكى القاضي عياض عن الواقدي أنه يشترط أن يكون بالغا وهو ضعيف لاستلزامه لخروج كثير من الصحابة الذين أدركوا عصر النبوة ورووا عن النبي صضص ولم يبلغوا إلا بعد موته ولا تشترط الرؤية للنبي صضص لأن من كان أعمى مثل ابن أم مكتوم قد وقع الاتفاق على أنه من الصحابة وقد ذكر الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من أهل الأصول أن الخلاف في مثل هذه المسألة لفظي ولا وجه لذلك فإن من قال بالعدالة على العموم ولا يطلب تعديل أحد منهم ومن اشترط في شروط الصحبة شرطا لا يطلب التعديل مع وجود ذلك الشرط ويطلبه مع عدمه فالخلاف معنوي لا لفظي .
فرع آخر .
ويعرف كون الصحابي صحابيا بالتواتر والاستفاضة وبكون من المهاجرين أو من الأنصار وبخبر صحابي آخر معلوم الصحبة واختلفوا هل يقبل قوله أنه صحابي أم لا فقال القاضي أبو بكر يقبل لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب إذا لم يرو عن غيره ما يعارض قوله وبه قال ابن الصلاح والنووي وتوقف ابن القطان في قبول قوله بأنه صحابي وروي عنه ما يدل على الجزم بعدم القبول فقال ومن يدع الصحبة لا يقبل منه حتى نعلم صحبته وإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره انتهى واعلم أنه لا بد من تقييد قول من قال بقبول خبره أنه صحابي بأن تقوم القرائن الدالة على صدق دعواه وإلا لزم قبول خبر كثير من الكذابين الذين ادعوا الصحبة