خاتمة لمقاصد هذا الكتاب .
اعلم أنا قد قدمنا في أول هذا الكتاب الخلاف في كون العقل حاكما أولا وذكرنا أنه لا خلاف في أن بعض الأشياء يدركها العقل ويحكم فيها كصفات الكمال والنقص وملاءمة الغرض ومنافرته وأحكام العقل باعتبار مدركاته تنقسم إلى خمسة أحكام كما انقسمت الأحكام الشرعية إلى خمس أقسام الأول : الوجوب كقضاء الدين والثاني : التحريم كالظلم والثالث : الندب كالإحسان والرابع : الكراهة كسوء الأخلاق والخامس : الإباحة كتصرف المالك في ملكه .
وهاهنا مسألتان : .
المسألة الأولى : هل الأصل فيما وقع فيه الخلاف ولم يرد فيه دليل يخصه أو يخص نوعه الإباحة أو المنع أو الوقف ؟ فذهب جماعة من الفقهاء وجماعة من الشافعية و محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ونسبه بعض المتأخرين إلى الجمهور إلى أن الأصل الإباحة وذهب الجمهور إلى أنه لا يعلم حكم الشيء إلا بدليل يخصه أو يخص نوعه فإذا لم يوجد دليل كذلك فالأصل المنع وذهب الأشعري وأبو بكر الصيرفي وبعض الشافعية إلى الوقف بمعنى لا يدري هل هنا حكم أم لا وصرح الرازي في المحصول أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع احتج الأولون بقوله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } فإنه أنكر على من حرم ذلك فوجب أن لا تثبت حرمته وإذا لم تثبت حرمته امتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراده لأن المطلق جزء من المقيد فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراده لثبتت الحرمة في زينة الله وفي الطيبات من الرزق وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة واحتجوا أيضا بقوله تعالى : { أحل لكم الطيبات } وليس المراد من الطيب الحلال وإلا لزم التكرار فوجب تفسيره بما يستطاب طبعا وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها واحتجوا أيضا بقوله تعالى { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } الآية فجعل الأصل الإباحة والتحريم مستثنى وبقوله سبحانه { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } وبما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي ضصض أنه قال [ إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء فحرم على السائل من أجل مسألته ] وبما أخرجه الترمذي وابن ماجة عن سلمان الفارسي قال سئل رسول الله ضصض عن السمن والخبز والفراء قال الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه واحتجوا أيضا بأنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعا ولا على المنتفع فوجب أن لا يمتنع كالاستضاءة بضوء السراج والاستظلال بظل الجدار ولا يرد على هذا الدليل ما قيل إنه يقتضي إباحة كل المحرمات لأن فاعلها ينتفع بها ولا ضرر فيها على المالك ويقتضي سقوط التكاليف بأسرها ووجه عدم وروده أنه قد وقع الإحتراز عنه بقوله ولا على المنتفع ولا انتفاع بالمحرمات وبترك الواجبات لضرره ضررا ظاهرا لأن الله سبحانه قد بين حكمها وليس النزاع في ذلك إنما النزاع فيما لم يبين حكمه ببيان يخصه أو يخص نوعه واحتجوا أيضا بأنه سبحانه إما أن يكون خلقه لهذه الأعيان لحكمة أو لغير حكمه والثاني باطل لقوله { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } وقوله { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } والعبث لا يجوز على الحكمة فثبت أنها مخلوقة لحكمة ولا تخلو هذه الحكمة إما أن تكون لعود النفع إليه سبحانه أو إلينا والأول باطل لاستحالة الانتفاع عليه D فثبت أنه إنما خلقها لينتفع بها المحتاجون إليها وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان فإن منع منه فإنما هو يمنع منه لرجوع ضرره إلى المحتاج إليه وذلك بأن ينهى الله عنه فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة وقد احتج القائلون بأن الأصل المنع بمثل قوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } وهذا خارج عن محل النزاع فإن النزاع إنما هو فيما لم ينص على حكمه أو حكم نوعه وأما ما قد فصل وبين حكمه فهو كما بينه بلا خلاف واحتجوا أيضا بقوله تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } قالوا فأخبر الله سبحانه أن التحريم والتحليل ليس إلينا وإنما هو إليه فلا نعلم الحلال والحرام إلا بإذنه ويجاب عن هذا بأن القائلين بأصالة الإباحة لم يقولوا بذلك من جهة أنفسهم بل قالوه بالدليل الذي استدلوا به من كتاب الله وسنة رسوله كما تقدم فلا ترد هذه الآية عليهم ولا تعلق لها بمحل النزاع واستدل بعضهم بالحديث الصحيح الثابت في دواوين الإسلام عنه ضصض قال [ الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات ] الحديث قال فأرشد ضصض إلى ترك ما بين الحلال والحرام ولم يجعل الأصل فيه أحدهما ولا يخفاك أن هذا الحديث لا يدل على مطلوبهم من أن الأصل المنع فإن استدل به القائلون بالوقف فيجاب عنه بأن الله سبحانه قد بين حكم ما سكت عنه بأنه حلال بما سبق من الادلة وليس المراد بقوله وبينهما امور مشتبهات الا ما لم يدل الدليل على انه حلال طلق او حرام واضح بل تنازعه امران احدهما يدل على الحاقه بالحلال والآخر يدل على إلحاقه بالحرام كما يقع ذلك عند تعارض الأدلة أما ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه كما تقدم في حديث سلمان وقد أوضحنا الكلام على هذا الحديث في رسالة مستقلة فليرجع إليها واستدلوا أيضا بالحديث الصحيح وهو قوله ضصض [ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ] الحديث ويجاب عنه بأنه خارج عن محل النزاع لأنه خاص بالأموال التي قد صارت مملوكة ولا خلاف في تحريمها على الغير وإنما النزاع في الأعيان التي خلقها الله لعباده ولم تصرفي ملك أحد منهم وذلك كالحيوانات التي لم ينص الله D على تحريمها إلا بدليل عام ولا خاص وكالنباتات التي تنبتها الأرض ما لم يدل دليل على تحريمها ولا كانت مما يضر مستعملة بل مما ينفعه .
المسألة الثانية : اختلفوا في وجوب شكر المنعم عقلا فالمعتزلة ومن وافقهم أوجبوه بالعقل على من لم يبلغه الشرع وخالف في ذلك جمهور الأشعرية ومن وافقهم لأنهم يقولون لا حكم للعقل كما تقدم تحقيقه قالوا وعلى تقدير التسليم لحكم العقل فلا حكم للعقل بوجوب شكر المنعم فلا إثم في تركه على من لم تبلغه دعوة النبوة لأنه لو وجب لوجب لفائدة واللازم باطل فالملزوم مثله وتقرير الملازمة أنه لو وجب لا لفائدة لكان عبثا وهو قبيح فلا يجب عقلا ولا يجوز على الله سبحانه إيجاب ما كان عبثا وأما تقرير بطلان اللازم فلأن الفائدة أما أن تكون لله تعالى أو تكون للعبد إما في الدنيا أو في الآخرة والكل باطل لأن الله سبحانه متعال ولأنه لا منفعة فيه للعبد في الدنيا لأنه تعب ومشقة عليه ولا حظ للنفس فيه وما كان كذلك لا يكون له فائدة دنيوية وأما انتفاع العبد به في الآخرة فلأن أمور الآخرة من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه وأجيب عن ذلك بمنع كونه لا فائدة للعبد فيه وسند هذا المنع بأن فائدته للعبد في الدنيا هي دفع ضرر خوف العقاب وذلك للزوم الخطور على بال عاقل إذا رأى ما عليه من النعم المتجددة وقتا بعد وقت أن المنعم قد ألزمه بالشكر كما يخطر على بال من أنعم عليه ملك من الملوك بأصناف النعم أنه مطالب له بالشكر عليها ومنع الأشعرية لزوم الخطور الموجب للخوف فلا يتعين وأجيب عن هذا المنع بأنه غير متوجب لأن ما ذكره القائلون بالوجوب هو منع فإن أرادوا بهذا المنع لذلك المنع أن سنده لا يصلح للسندية فذلك منع مجرد للسند وهو غير مقبول وعلى التسليم فيقال وإنه وإن لم يتعين وجود الخوف فهو على خطر الوجود بالشكر يندفع احتمال وجوده وهو فائدة جليلة ثم جاء الأشعرية بمعارضة لما ذكرته المعتزلة فقالوا ولو سلم فخوف العقاب على الترك معارض بخوف العقاب على الشكر إما لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن المالك فإن ما يتصرف به العبد من نفسه وغيرها ملك الله تعالى وأما لأنه كالاستهزاء وما مثله إلا كمثل فقير حضر مائدة ملك عظيم فتصدق عليه بلقمة فطفق يذكرها في المجامع وشكر عليها شكرا كثيرا مستمرا فإن ذلك يعد استهزاء من الشاكر بالملك فكذا هنا بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة إلى الرب سبحانه وشكر العبد أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير للملك على الصفة المذكورة ولا يخفاك أن هذه المعارضة الركيكة والتمثيل الواقع في غاية من السخف يندفعان بما قصه الله سبحانه علينا في الكتاب العزيز من تعظيم شأن ما أنعم به على عباده وكرر ذلك تكريرا كثيرا فإن كان ذلك مطابقا للواقع سقط ما جاءوا به وإن كان غير مطابق للواقع فهو التكذيب البحت والرد الصراح ثم لا يخفى على أحد أن النعمة التي وجب الشكر عليها هي على غاية العظمة عند الشاكر فإن أولها وجوده ثم تكميل آلاته ثم إفاضة النعم عليه على اختلاف أنواعها فكيف يكون شكره عليها استهزاء .
وقد اعترض جماعة من المحققين على ما ذكره الأشاعرة في هذه المسألة منهم ابن الهمام في تحريره فقال ولقد طال رواج هذه الجملة على تهافتها يعني جملة الاستدلال والاعتراض ثم ذكر أن حكم المعتزلة بتعلق الوجوب والحرمة بالفعل قبل البعثة تابع لعقلية ما في الفعل فإذا عقل فيه حسن يلزم بترك ما هو فيه القبح كحسن شكر المنعم المستلزم تركه القبح الذي هو الكفران بالضرورة فقد أدرك العقل حكم الله الذي هو وجوب الشكر قطعا وإذا ثبت الوجوب بلا مرد لم يبق لنا حاجة في تعيين فائدة بل نقطع بثبوتها في نفس الأمر علم عينها أولا ولو منعوا يعني الأشعرية اتصاف الشكر بالحسن واتصاف الكفران بالقبح لم تصر مسألة على التنزل معنى والمفروض أنها مسألة على التنزل ثم ذكر أن انفصال المعتزلة بدفع ضرر خوف العقاب إنما يصح حاملا على العمل الذي يتحقق به الشكر وهو بعد العلم بوجوب الشكر بالطريق الموصلة إليه وهو محل النزاع ثم قال وأما معارضتهم بأنه يشبه الاستهزاء فيقضي منه العجب قال شارحه لغرابته وسخافته كيف ويلزم منه انسداد باب الشكر قبل البعثة وبعدها انتهى .
ومن كان مطلعا على مؤلفات المعتزلة لا يخفى عليه أنهم إنما ذكروا هذا الدليل للاستدلال به على وجوب النظر فقالوا من رأى النعم التي هو فيها دقيقها وجليلها وتواتر أنواعها خشى أن لها صانعا بحق له الشكر إذ وجوب شكر كل منعم ضروري ومن خشي ذلك خاف ملاما على الإخلال وتبعه على الإخلال ضرر عاجل والنظر كاشف للحيرة دافع لذلك الخوف فمن أخل بالنظر حسن في العقل ذمه وهو معنى الوجوب فإذا نظر زال ذلك الضرر فيلزمه فائدة الأمن من العقاب على التقديرين إما بأن يشكر وإما بأن يكشف له بالنظر أنه لا منعم فلا عقاب هذا حاصل كلامهم في الوجوب العقلي .
وأما الوجوب الشرعي فلا نزاع فيه بينهم وقد صرح الكتاب العزيز بأمر العباد بشكر ربهم وصرح أيضا بأنه سبب في زيادة النعم والأدلة القرآنية والأدلة النبوية في هذا كثيرة جدا وحاصلها فوز الشاكر بخير الدنيا والآخرة وفقنا الله تعالى لشكر نعمه ودفع عنا جميع نقمه .
قال المؤلف C : وإلى هنا انتهى ما أردنا جمعه بقلم مؤلفه المفتقر إلى نعم ربه الطالب منه مزيدها عليه ودوامها له محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله ذنوبه .
وكان الفراغ منه يوم الأربعاء الرابع من شهر محرم سنة 1231 والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه تم