الفصل الثاني في التقليد وما يتعلق به من أحكام المفتى والمستفتى وفيه ست مسائل .
المسألة الأولى : في حد التقليد والمفتى والمستفتى أما التقليد فأصله في اللغة مأخوذ من القلادة التي يقلد غيره بها ومنه تقليد الهدى فكأن المقلد جعل ذلك الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده وفي الاصطلاح هو العمل بقول الغير من غير حجة فيخرج العمل بقوله رسول الله صضص والعمل بالإجماع ورجوع العامي إلى المفتي ورجوع القاضي إلى شهادة العدول فإنها قد قامت الحجة في ذلك أما العلم بقول رسول الله صضص وبالإجماع فقد تقدم الدليل على ذلك في مقصد السنة وفي مقصد الإجماع وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل على ذلك في مقصد السنة وفي الإجماع وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة والعمل بها وقد وقع الإجماع على ذلك وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فللإجماع على ذلك ويخرج عن ذلك قبول رواية الرواة فإنه قد الدليل على قبولها ووجوب العمل بها وأيضا ليست قول الراوي بل قول من روى عنه إن كان ممن تقوم به الحجة وقال ابن الهمام في التحرير التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة وهذا الحد من الذي قبله وقال القفال هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أن قاله وقال الشيخ أبو حامد والأستاذ أبو منصور هو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله وقيل هو قبول الغير دون حجة القول والأولى أن يقال هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة وفوائد هذه القيود معروفة بما تقدم وأما المفتى فهو المجتهد وقد تقدم بينه ومثله قول من قال إن المفتى للفقيه لأن المراد به المجتهد في مصطلح أهل الأصول والمستفتى من ليس بمجتهد أو من ليس بفقيه وقد عرفت من حد المقلد على جميع الحدود المذكورة أن قبول قول النبي صضص والعمل به ليس من التقليد في شيء لأن قوله صضص وفعله نفس الحجة قال القاضي حسين في التعليق لا خلاف أن قبول قول غير النبي صضص من الصحابة والتابعين يسمى تقليدا وأما قبول قوله صضص فهل يسمى تقليدا ؟ فيه وجهان يبتنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا هو ؟ وذكر الشيخ أبو حامد أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليدا فإنه قال في حق قول الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ به ما نصه وأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله وآله وسلم انتهى ولا يخفاك أن مراده بالتقليد هاهنا غير ما وقع عليه الاصطلاح ولهذا قال الروياني في البحر أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي صضص تقليدا ولم يرد حقيقة التقليد وإنما أراد القبول من غير السؤال عن وجهه وفي وقوع إسم التقليد عليه وجهان قال والصحيح من المذهب أنه يتناول هذا الاسم قال الزركشي في البحر وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ وبه صرح إمام الحرمين في التخليص حيث قال وهو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق انتهى وبهذا تعرف أن التقليد بالمعنى المصطلح لا يشمل ذلك وهو المطلوب قال ابن الدقيق العيد إن الأنبياء لا يجتهدون فقد علمنا أن سبب أقوالهم فلا يكون تقليدا وإن قلنا إنهم يجتهدون فقد علمنا أن السبب أحد الأمرين : إما الوحي أو الاجتهاد وعلى كل تقدير فقد علمنا السبب واجتهادهم اجتهاد معلوم العصمة انتهى وقد نقل القاضي في التقريب الإجماع على أن الآخذ بقول النبي صضص والراجع إليه ليس بمقلد بل هو صائر إلى دليل وعلم يقين انتهى .
المسألة الثانية : اختلفوا في المسائل العقلية وهي المتعلقة بوجود البارئ وصفاته هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟ فحكى الرازي في المحصول عن كثير من الفقهاء أنه يجوز وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف قال أبو الحسين بن يقطان لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء وقال إمام الحرمين في الشامل لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة وقال الإسفرائني لا يخالف فيه إلا أهل الظاهر واستدل الجمهور بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله D وأنها لا تحصل بالتقليد لأن المقلد ليس معه إلا الأخذ بقول من يقلده ولا يدري أهو صواب أم خطأ قال الأستاذ أبو منصور فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل فاختلفوا فيه فقال أكثر الأئمة إنه مؤمن من أهل الشفاعة وإن فسق بترك الاستدلال وبه قال أئمة الحديث وقال الأشعري وجمهور المعتزلة لا يكون مؤمنا حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين انتهى فيالله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود وترجف عند سماعها الأفئدة فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها الإيمان الجملي ولم يكلفهم رسول الله صضص وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته وما حكاه الأستاذ أبو منصور عن أئمة الحديث من أنه مؤمن وإن فسق فلا يصح التفسيق عنهم بوجه من الوجوه بل مذهب سابقهم ولاحقهم الاكتفاء بالايمان الجملي وهو الذي كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم بل حرم كثير منهم النظر في ذلك وجعله من الضلالة والجهالة ولم يخف هذا من مذهبهم حتى على أهل الأصول والفقه قال الأستاذ أبو إسحاق ذهب قوم من كتبة الحديث إلى أن طلب الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب وإنما الغرض هو قول الله ورسول ويرون الشروع في موجبات العقول كفرا وأن الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه وإنما هو طريق إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردد فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه من غير دلالة قاطعة فقد صار مؤمنا وزال عنه كلفة طلب الأدلة ومن أحسن الله إليه وأنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي من الشبهة والشكوك فقد أنعم الله عليه بأكمل أنواع النعم وأجلها حين لم يكله إلى النظر والاستدلال لا سيما العوام فإن كثيرا منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن يشاهد ذلك بالأدلة انتهى ومن أمعن النظر في أحوال العوام وجدها صحيحا فإن كثيرا منهم نجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسي ونجد بعض المتعلقين بعلم الكلام المشتغلين به الخائضين في معقولاته التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقض إيمانه وتنتقض منه عروة عروة فأن أدركته الألطاف الربانية نجا إلا هلك ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم المتبحرين في أنواعها في آخر أمره أن يكون على دين العجائز ولهم في ذلك من الكلمات المنظومة والمنثورة ما لا يخفى على من له إطلاع على أخبار الناس وقد أنكر القشيري والشيخ أبو محمد الجويني وغيرهما من المحققين صحة هذه الرواية المتقدمة عن أبي حسن الأشعري قال ابن السمعاني إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدا عن الصواب ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك وتصدر عقيدته عنه كيف وهم لو عرضت عليهم تلك الأحكام لم يفهموها وإنما غاية العامي أن يتلقن ما يريد أن يعتقدوه ويلقي به ربه من العلماء يتبعهم في ذلك ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء والأدغال ثم يعض عليها بالنواجذ فلا يحول ولا يزول لو قطع إربا فهنيئا لهم السلامة والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام والورطات التي توغلوها حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك ودخلت عليهم الشبهات العظيمة فصاروا متحيرين ولا يوجد فيهم متورع عفيف إلا القليل فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة وأرسلوها في صفات الله بجرأة وعدم مهابة وحرمه قال ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه من الشبه القوية ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به برد الخاطر وإنما ننكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اعتقدوه وساموا به الخلق وزعموا أن من لم يعرف ذلك لم يعرف الله تعالى ثم أداهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع وهذا هو الخطة الشنعاء والداء العضال وإذا كان السواد الأعظم هو العوام وبهم قوام الدين وعليهم مدار رحى الإسلام ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة الألف من يقوم بالشرائط التي يعتبرونها إلا العدد الشاذ الشارد النادر ولعله لا يبلغ عدد العشرة انتهى .
المسألة الثالثة : اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقا قال القرافي مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد قال ونقل عن مالك أنه قال أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه وقال عند موته وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأي سوطا على أنه لا صبر لي على السياط قال ابن حزم فهاهنا مالك ينهى عن التقليد وكذلك الشافعي وأبو حنيفة وقد روى المزني عن الشافعي في أول مختصرة أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره انتهى ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها القول المفيد في حكم التقليد فلا نطول المقام بذكر ذلك وبهذا تعلم أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور ويؤيد هذا ما سيأتي في المسألة التي بعد هذه في حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات وكذلك ما سيأتي من أن عمل المجتهد برأيه إنما هو رخصة له عند عدم الدليل ولا يجوز لغيره أن يعمل به بالإجماع فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله فالعجب من كثير من أهل الأصول حيث لم يحكوا هذا القول إلا عن بعض المعتزلة وقابل مذهب القائلين بعده الجواز بعض الحشوية وقال يجب مطلقا ويحرم النظر وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على أنفسهم وعلى غيرهم فإن التقليد جهل وليس بعلم والمذهب الثالث : التفصيل وهو أنه يجب على العامي ويحرم على المجتهد وبهذا قال كثير من أتباع الأئمة الأربعة ولا يخفاك أنه إنما يعتبر في الخلاف أنه إنما يعتبر خلافه ولا سيما وأئمتهمم الأربعة يمنعونهم من تقليدهم وتقليد غيرهم وقد تعسفوا فحملوا كلام أئمتهم هؤلاء على أنهم أرادوا المجتهدين من الناس لا المقلدين فيالله العجب وأعجب من هذا أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثرين وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين فإن أراد إجماع خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فتلك دعوى باطلة فإنه لا تقليد فيهم البتة ولا عرفوا التقليد ولا سمعوا به بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسألة التي تعرض له فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية وقد عرفت في أول هذا الفصل أن التقليد إنما هو العمل بالرأي لا بالرواية وليس المراد بما احتج به الموجبون للتقليد والمجوزون له من قوله سبحانه { فاسألوا أهل الذكر } إلا السؤال عن حكم الله في المسألة لا عن آراء الرجال هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال كما زعموا وليس الأمر كذلك بل هي واردة في أمر خاص وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالا كما يفيده أول الآية وآخرها حيث قال { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } { بالبينات والزبر } وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم قالوا بالمنع من التقليد ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك وإن أراد إجماع من بعدهم فوجود المنكرين لذلك منذ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم بكل من يعرف أقوال أهل العلم وقد عرفت مما نقلناه سابقا أن المنع قول الجمهور إذ لم يكن إجماعا وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة فقد عرفت مما قدمنا في مقصد الإجماع أنه لا اعتبار بأقوال المقلدين في شيء فضلا عن أن ينعقد بهم إجماع والحاصل أنه لم يأت من جوزه التقليد فضلا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابهما قط ولا نؤمر برد شرائع الله سبحانه إلى آراء الرجال بل أمرنا بما قاله سبحانه { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } أي كتاب الله وسنة رسوله وقد كان صضص يأمر من يرسله من أصحابه بالحكم بكتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله صضص فإن لم يجد فيما يظهر له من الرأي كما في حديث معاذ وأما ما ذكروه من استعباد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد فليس الأمر كما ذكروه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهو سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحث واجتهاده المحض وعلى هذا كان عمل المقصرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق فلا وسع الله عليه وقد ذم الله تعالى المقلدين في كتابه العزيز في كثير من { إنا وجدنا آباءنا على أمة } { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } وأمثال هذه الآيات ومن أراد استيفاء هذا البحث على التمام فليرجع إلى الرسالة التي قدمت الإشارة إليها وإلى المؤلف الذي سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب وما أحسن ما حكاه الزركشي في البحر عن المزني أنه قال : يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فإن قال نعم أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد وان قال بغير علم قيل له فلم ارقت الدماء وابحت الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك بحجة فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء قيل له تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عنك فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ثم كذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علما ؟ وقد روى عن رسول الله صضص أنه حذر من زلة العالم وعن ابن مسعود أنه قال لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر انتهى قلت تتميما لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلى العالم من الصحابة يقال له هذا الصحابي أخذ علمه من أعلم البشر المرسل من الله تعالى إلى عباده المعصوم من الخطأ في أقوال وأفعاله فتقليده أولى من تقليده الصحابي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاد حجة على أحد من الناس واعلم أنه لا خلاف في أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له يجوز له العمل بها عند فقد الدليل ولا يجوز لغيره العمل بها بحال من الأحوال ولهذا نهى كبار الأئمة عن تقليدهم وتقليد غيرهم وقد عرفت حال المقلد أنه إنما يأخذ بالرأي لا بالرواية ويتمسك بمحض الإجتهاد غير مطالب بحجة فمن قال إن رأى المجتهد يجوز لغيره التمسك به ويسوغ له يعمل به فيما كلفه الله فقد جعل هذا المجتهد صاحب شرع ولم يجعل الله ذلك لأحد من هذه الأمة بعد نبينا صضص ولا يتمكن كامل ولا مقصر أن يحتج على هذا بحجة قط وأما مجرد الدعاوى والمجازفات في شرع الله تعالى فليست بشيء ولو جازت الأمور الشرعية بمجرد الدعاوى لادعى من شاء ما شاء وقال من شاء بما شاء .
المسألة الرابعة : اختلفوا هل يجوز لمن ليس بمجتهد أن يفتي بمذهب إمامه الذي يقلده أو بمذهب إمام آخر فقيل لا يجوز وإليه ذهب جماعة من أهل العلم منهم أبو الحسين البصري والصيرفي وغيرهم قال الصيرفي وموضوع هذا الاسم يعني المفتى لمن قام للناس بأمر دينهم وعلى حمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك السنن والاستنباط ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم ومن استحقه يما استفتى قال ابن السمعاني المفتى من استكمل فيه ثلاث شرائط الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل قال ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتى قال الرازي في المحصول اختلفوا في غير المجتهد هل يجوز له يجوز له الفتوى بما يحكيه عن المفتين فنقول لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أوحي فإن حكى عن ميت لم يجز له الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت لأن الإجماع لا ينعقد على خلافه حيا وينعقد على موته وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته فإن قلت لم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها ؟ قلت لفائدتين إحداهما : استفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيف بني بعضها على بعض والثانية معرفة المتفق عليه من المختلف فيه فلا يفتى بغير المتفق عليه انتهى وفي كلامه هذا التصريح بالمنع من تقليد الأموات وقد حكى الغزالي في المنخول إجماع أهل الأصول على المنع من تقليد الأموات قال الروياني في البحر إنه القياس وعللوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد كمن تجدد فسقه بعد عدالته فإنه لا يبقى حكم عدالته وإما لأن قوله وصف له وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محال وأما لأنه لو كان حيا لوجب عليه تجديد الاجتهاد وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه على القول الأول فتقليده بناء على وهم أو تردد والقول بذلك غير جائز وبهذا تعرف أن قول من قال بجوار فتوى المقلد حكاية عن مجتهد ليس على إطلاقه وذهب جماعة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتى بمذهب مجتهد من المجتهدين بشرط أن يكون ذلك المفتى أهلا للنظر مطلعا على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به فلا يجوز وحكاه القاضي عن القفال ونسبه بعض المتأخرين إلى الأكثرين وليس كذلك ولعله يعني الأكثرين من المقلدين وبعضهم نسبه إلى الرازي وهو غلط عليه فإن اختياره المنع واحتج بعض أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى قال الهندي وهذا القول بانعقاد الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد وهم المجتهدون والمجمعون ليسوا بمجتهدين فلا يعتبر إجماعهم بحال قال ابن دقيق العيد توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهويتهم فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله يكتفي به لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صضص وكذلك فعل علي رضى الله عنه حين أرسل المقداد بن الأسود في قصة المذي وفي مسألتنا أظهر فإن مراجعه النبي صضص إذ ذاك ممكنة ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع شرائط الاجتهاد اليوم انتهى قلت وفي كلام هذا المحقق ما لا يخفى على الفطن أما قوله يفضي إلى حرج عظيم الخ فغير مسلم فإن من حدثت له الحادثة لا يتعذر عليه أن يستفتي من يعرف ما شرعه الله في المسألة في كتابه أو على لسان رسوله كما يمكنه أن يسأل من يعرف مذهب مجتهد من الأموات عن رأي ذلك المجتهد في حادثته وأما استدلاله على الجواز بقوله لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي الخ فمن أغرب ما يسمعه السامع لا سيما عن مثل هذا الإمام وأي ظن لهذا العامي بالنسبة إلى الأحكام الشرعية وأي تأثير لظنون العامة الذين لا يعرفون الشريعة ومعلوم أن ظن غالبهم لا يكون إلا فيما يوافق هواه { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض } وأما قوله مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة الخ فنقول نعم ذلك أمر ضروري فكان ماذا فإن ذلك ليس باستفتاء عن رأي من ليس بحجة بل استفتاء عن الشرع في ذلك الحكم فإن كان المسؤول يعلمه رواه للسائل وإن لم يعلمه أحال السؤال على رسول الله صضص على من يعلمه من أصحابه وكذا فيمن بعدهم ونحن لا نطلب من العامي والمقصر إذا نابته نائبة وحدثت له حادثة إلا أن يفعل هكذا فيسأل علماء عصره كما كان الصحابة والتابعون فتابعوهم يسألون أهل العلم فيهم وما كانوا يسألونهم عن مذاهبهم ولا عما يقولون بمحض الرأي فإن قلت مراد هذا المحقق إلا أنهم يستفتون المقلد عما صح لذلك المجتهد بالدليل قلت إذا كان مراده هذا فأي فائدة لإدخال المجتهد في البين وما ثمرة ذلك فينبغي له أن يسأل عن الثابت في الشريعة و يكون المسؤول فيمن لا يجهله فيفتيه حينئذ بفتوى قرآنية أو نبوية و يدع السؤال عن مذاهب الناس ويستغني بمذهب إمامهم الأول وهو رسول الله صضص وأما إرسال علي للمقداد فهو إنما أرسله ليروى له ما يقوله الصادق المصدوق المعصوم عن الخطأ وأين هذا مما نحن بصدده وأما قوله و قد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا الإطباق إن كان من المجتهدين فممنوع وإن كان من العامة المقلدين فلا اعتبار به وعلى كل حال فغير المجتهد لا يدري بحكم الله في تلك الحادثة وإذا لم يدره فهو حاكم بالجهل ليس بحجة على أحد وذهب طائفة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتي إذا عدم المجتهد وإلا فلا وقال آخرون إنه يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه ولا يجوز له تقليد الميت قال الروياني و الماوردي إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها فهل له أن يفتي فيه أوجه ثالثها إن كان الدليل نصا من كتاب أو سنة جاز وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز قال الروياني و الماوردي والأصح أنه لا يجوز مطلقا لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها وقال الجويني في شرح الرسالة من حفظ نصوص الشافعي وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى و لو أفتى فإنه لا يجوز .
المسألة الخامسة : إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم والمقصر يسأل الكامل فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما المطلع على ما يحتاج إليه في فهمها من العلوم الآلية حتى يدلوه عليه ويرشدوه إليه فيسأله عن حادثته طلبا منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحان أوما في سنة رسول الله صضص فحينئذ يأخذ الحق من معدنه ويستفيد الحكم من موضعه ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق ومن سلك هذا المنهج ومشى في هذا المنهج ومشى في هذا الطريق لا يعدم مطلبه ولا يفقد من يرشده إلى الحق فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد لهذا الشأن من يقوم به ويعرفه حق معرفته وما من مدينة من المدائن إلا وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة وعند ذلك يكون حكم هذا المقصر حكم المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يستروون النصوص من العلماء ويعملون على ما يرشدونهم إليه ويدلوهم عليه وقد ذكر أهل الأصول انه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله مجتمعين على الرجوع إليه ولا يستفتي من هو مجهول الحال كما صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وحكى في المحصول الاتفاق على المنع وشرط القاضي أخبار من يوجب خبره العلم بكونه عالما في الجملة ولا يكفي خبر الواحد والاثنين وخالفه غيره في ذلك فاكتفوا بخبر عدلين وممن صرح بذلك صاحب فقال واشتراط تواتر الخبر بكونه مجتهدا كما قاله الأستاذ غير سديد واشترط القاضي وجماعة من المحققين امتحانه بالمسائل المفترقة ومراجعته فيها فإن أصاب في الجواب غلب على ظنه كونه مجتهدا وذهب الوجيز قيل يقول له أمجتهد أنت وأقلدك ؟ فإن أجابه قلده قال وهذا أصح المذاهب وجزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بأنه يكفيه خبر العدل الواحد عن فقهه وأمانته لأن طريقه طريق الأخبار انتهى وإذا كان في البلد جماعة متصفون بهذه الصفة المسوغة للأخذ عنهم فالله فالمستفتى مخير بينهم كما صرح به عامة أصحاب الشافعي قال الرافعي وهو الأصح وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني والكيا إنه يبحث عن الأعلم منهم فيسأله وقد سبقه إلى القول بذلك ابن شريح والقفال قالوا لأن الأعلم أهدى إلى أسرار الشرع وإذا اختلف عليه فتوى علماء عصره فقيل هو مخير يأخذ بما شاء منها وبه قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشافعي وصححه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والقاضي والآمدي واستدلوا بإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل وقيل يأخذ بالأغلظ حكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر وقيل يأخذ بالأخف وقيل يبحث عن الأعلم منهم فيأخذ بقوله وهو قول من قال إنه يبحث عن الأعلم كما تقدم وقيل يأخذ بقول الأول حكاه الروياني وقيل يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي حكاه الرافعي وقيل يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه حكاه ابن السمعاني وقيل إن كان في حق الله أخذ بالأخف وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ حكاه الأستاذ أبو منصور وقيل إنه يسأل المختلفين عن حجتهما إن اتسع عقله لفهم ذلك فيأخذ بأرجح الحجتين عنده وإن لم يتسع عقله لذلك أخذ بقول المعتبر قاله الكعبي .
المسألة السادسة : اختلف المجوزون للتقليد هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة فقال جماعة منهم يلزمه ورجحه الكيا وقال آخرون لا يلزمه ورجحه ابن برهان والنووي واستدلوا بأن الصحابة Bهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم في بعض المسائل وبعضهم في البعض الآخر وذكر بعض الحنبالة أن هذا مذهب أحمد بن حنبل فإنه قال لبعض أصحابه لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا دعهم يترخصوا بمذاهب الناس وسئل عن مسألة من الطلاق فقال يقع يقع فقال له السائل فإن أفتاني أحد أنه لا يقع يجوز ؟ قال نعم وقد كان السلف يقلدون من شاءوا قبل ظهور المذاهب وقال ابن المنير الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة من شاؤوا قبل ظهور المذاهب وقال ابن المنير الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم انتهى وهذا التفصيل مع زعم قائله أنه اقتضاه الدليل من أعجب ما يسمعه السامعون وأغرب ما يعتبر به المنصفون أما إذا التزم العامي مذهبا معينا فلهم في ذلك خلاف آخر وهو أنه هل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره فقيل لا يجوز وقيل يجوز وقيل إن يخالف قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال وإلا جاز وقيل إن كان بعد حدوث الحادثة التي قلد فيها لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختار هذا إمام الحرمين وقيل إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له وإلا لم يجز وبه قال القدوري الحنفي وقيل إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختاره ابن عبد السلام وقيل يجوز بشرط أن ينشرح له صدره وأن لا يكون قاصدا للتلاعب وأن لا يكون ناقضا لما قد حكم عليه به واختاره ابن دقيق العيد وقد ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق واعترض عليهما بأن الخلاف جاز فيما ادعيا الاتفاق عليه أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي يفسق وقال ابن أبي هريرة لا يفسق قال الإمام أحمد بن حنبل لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقا وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها العامي العامل بها من غير تقليد لإخاله بفرضه وهو التقليد فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق لأنه قلد من سوغ اجتهاده وقال ابن عبد السلام ينظر إلى الفعل الذي فعله فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم وإلا لم يأثم وفي السنن للبيهقي عن الأوزاعي من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام وروى عنه أنه قال يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة ومن قول أهل الكوفة النبيذ وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال دخلت على المعتضد فرفع إلى كتابا لطرق فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم فقلت مصنف هذا زنديق فقال لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب