المسألة السابعة : اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب والمسائل التي لحق فيها مع واحد من المجتهدين .
وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين : .
الفرع الأول : العقليات وهي على أنواع الأول ما يكون الغلط فيه مانعا من معرفة الله كما في إثبات العلم بالصانع والتوحيد والعدل قالوا فهذه الحق فيها واحد فمن أصابه أصاب الحق ومن اخطأه فهو كافر النوع الثاني مثل مسألة الرؤية وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار وما يشابه ذلك فالحق فيها واحد فمن أصابه فقد أصاب ومن أخطأه فقيل يكفر ومن القائلين بذلك الشافعي فمن أصحابه من حمله على ظاهره ومنهم من حمله على كفران النعم النوع الثالث إذا لم تكن المسألة دينية كما في تركب الأجسام من ثمانية أجزاء وانحصار اللفظ في المفرد والمؤلف قالوا فليس المخطئ فيها بآثم ولا المصيب فيها بمأجور إذ هذه وما يشابهها يجري مجرى الاختلاف في كون ملكه أكبر من المدينة أو أصغر منها وقد حكى ابن الحاجب في المختصر أن المصيب في العقليات واحد ثم حكى عن العنبري أن كل مجتهد في العقليات مصيب وحكى ايضا عن الجاحظ أنه لا إثم على المجتهد بخلاف المعاهد قال الزركشي وأما الحق فجعل الحق فيها واحد ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم قال ابن السمعاني وكان العنبري يقول في مثبتي القدر هؤلاء عظموا الله وفي نافي القدر هؤلاء نزهوا الله وقد استشبع هذا القول منه يقتضي تصويب اليهود والنصارى وسائر الكفار في اجتهادهم قال ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة كالرؤية وخلق الأفعال ونحوه وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل كاليهود والنصارى والمجوس فهذا مما يقطع فيه بقول اهل الإسلام قال القاضي في مختصر التقريب اختلفت الروايات عن العنبري فقال في أشهر الروايتين إنما أصوب كل مجتهد في الذين يجمعهم الله وأما الكفرة فلا يصوبون وفي رواية عنه أنه صوب الكافرين المجتهدين دون الراكبين البدعة قال ونحن نتكلم معهما يعني العنبري والجاحظ فنقول أنتما أولا محجوجان بأن الإجماع قبلكما وبعدكما .
ثانيا أن اردتما بذلك مطابقة الإعتقاد للمعتقد فقد خرجتما عن حيز العقلاء وانخرطتما في سلك الأنعام وإن أردتما الخروج عن عهدة التكليف ونفي الحرج كما نقل عن الجاحظ فالبراهين العقلية من الكتاب والسنة والإجماع الخارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة وأما تخصيص التصويب بأهل الملة الإسلامية فنقول مما خاض فيه المسلمون القول بخلق القرآن وغير ذلك مما يعظم خطره وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المرء إدراك بطلانه وقد حكى القاضي أيضا في موضع آخر عن داود بن علي الأصفهاني إمام مذهب الظاهر أنه قال بمثل قول العنبري وحكى قوم عن العنبري والجاحظ أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا وغيرهم وقد نحا الغزالي نحو هذا المنحى في كتاب التفرقة بين الاسلام والزندقة وقال ابن دقيق العيد ما نقل عن العنبري والجاحظ أن أراد أن كل واحد من المجتهدين مصيب لما في نفس الأمر فباطل وإن أريد به من بذل الوسع ولم يقصر في الأصوليات يكون معذورا غير معاقب فهذا اقرب لأنه قد يعتقد فيه أنه لو عوقب وكلف بعد استفراغه غاية الجهد لزم تكليفه بما لا يطاق قال وأما الذي حكى عنه من الاصابة في العقائد القطعية فباطل قطعا ولعله لا يقوله إن شاء الله تعالى وأما المخطئ في الأصول والمجتهد فلا شك في تأثيمه وتفسيقه تضليله واختلف في تكفيره وللأشعري قولان قال إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما وأظهر مذهبه ترك التكفير وهو اختيار القاضي في متاب المتأولين وقال ابن السلام رجع الإمام الحسن الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوف قال الزركشي وكان الإمام أبو سهل الصعلوكي لا يكفر فقيل له ألا يكفرك فعاد إلى القول بالتكفير وهذا مذهب المعتزلة فهم يكفرون خصومهم ويكفر كل فريق منهم الآخر وقد حكى إمام الحرمين عن معظم أصحاب الشافعي ترك التكفير وقال إنما يكفر من جهل وجود الرب أو علم وجوده ولكن فعل فعلا أو قال قولا أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر انتهى واعلم أن التكفير لمجتهدي الإسلام بمجرد الخطأ في الاجتهاد في شيء من مسائل العقل عقبة كؤود لا يصعد إليها إلا من لا يبالي بدينه ولا يحرص عليه لأنه مبني على شفا جرف هار وعلى ظلمات بعضها فوق بعض وغالب القول به ناشئ عن العصبية وبعضه ناشئ عن شبه واهية ليست من الحجة في شيء ولا يحل التمسك بها في أيسر أمر من أمور الدين فضلا عن هذا الأمر الذي هو مزلة خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم يدفع ذلك دفعا لا شك فيه ولا شبهة فإياك أن تغتر بقول من يقول منهم إنه يدل على ما ذهب إليه الكتاب والسنة فإن ذلك دعوى باطلة مترتبة على شبهة داحضة وليس هذا المقام مقام بسط الكلام على هذا المرام فموضعه علم الكلام .
الفرع الثاني : المسائل الشرعية فذهب الجمهور ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني ومن المعتزلة أبو الهذيل وأبو هاشم وأتباعهم إلى أنها تنقسم إلى قسمين .
الأول : ما كان منها قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنا والخمر فليس كل مجتهد فيها بمصيب بل الحق فيها واحد فالموافق له مصيب والمخطئ غير معذور وكفره جماعة منهم لمخالفته للضروري وإن كان فيها دليل قاطع وليست من الضروريات الشرعية فقيل إن قصر فهو مخطئ آثم وإن لم يقصر فهو مخطئ غير آثم قال ابن السمعاني ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحانا من الله لعباده ليفاضل بينهم في درجات العلم ومراتب الكرامة كما قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } وقال { وفوق كل ذي علم عليم } .
القسم الثاني : المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها وقد اختلفوا في ذلك اختلافا طويلا واختلف النقل عنهم ذلك اختلافا كثيرا فذهب جمع جم إلى أن قول من أقوال المجتهدين فيها حق وأن كل واحد منهم مصيب وحكاه الماوردي والرياني عن الأكثرين قال الماوردي وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة وذهب أبو حنفية ومالك والشافعي وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال ولم يتعين لنا وهو عند الله متعين لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالا وحراما وقد كان الصحابة Bهم يخطئ بعضهم بعضا ويعترض بعضهم على بعض ولو كان اجتهاد كل مجتهد حقا لم يكن للتخطئة وجه ثم اختلف هؤلاء بعد اتفاقهم على أن الحق واحد هل كل مجتهد مصيب أم لا ؟ فعند مالك والشافعي وغيرهما أن المصيب منهم واحد وإن لم يتعين وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد وقال جماعة منهم أبو يوسف إن كل مجتهد مصيب وإن كان الحق مع واحد وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله وأنكر ذلك أبو إسحاق المروزي وقال إنما نسبة إليه قوم من المتأخرين ممن لا معرفة لهم بمذهبه قال القاضي أبو الطيب الطبري واختلف النقل عن أبي حنفية فنقل عنه أنه قال في بعض المسائل كقولنا وفي بعض كقول أبي يوسف وقد روى عن اهل العراق وأصحاب مالك وابن شريح وأبي حامد بمثل قول أبي يوسف واستدل ابن كج على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه ولا يجوز إجماعهم على خطأ قال ابن فورك في المسألة ثلاثة أقوال : أحدها أن الحق في واحد وهو المطلوب وعليه دليل منصوب فمن وضع النظر موضعه أصاب ومن قصر عنه وفقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم عليه ولا نقول إنه معذور لأن المعذور من يسقط عنه التكليف لعذر في تركه كالعاجز عن القيام في الصلاة وهو عندنا قد كلف إصابة العين لكنه خفف أمر خطابه وأجر على قصده الصواب وحكمه نافذ على الظاهر وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه نص في كتاب الرسالة وأدب القاضي والثاني أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يتكلفوا إصابته وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد وإن كان بعضهم مخطئا والثالث أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن انتهى وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم فقد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية وحكى عن أهل الظاهر وعن جماعة من الشافعية وطائفة من الحنفية وقد طول أئمة الأصول الكلام في هذه المسألة وأوردوا من الأدلة ما لا تقوم به الحجة واستكثر من ذلك الرازي في المحصول ولم يأتوا بما يشفى طالب الحق وهاهنا دليل يرفع النزاع ويوضح الحق إيضاحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب وهو الحديث الثابت في الصحيح من طرق أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق اجرين وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبا واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر فمن قال كل مجتهد مصيب وجعل الحق متعددا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينا وخالف الصواب بمخالفة ظاهرة فإن النبي ضصض جعل المجتهدين قسمين قسما مصيبا وقسما مخطئا ولو كان كل منهم مصيبا لم يكن لهذا التقسيم معنى وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفه آثم يوافق الحق في اجتهاده مخطئا ورتب على ذلك استحقاقه للأجر فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدا ومما يحتج به على هذا حديث القضاء ثلاثة فإنه لو لم يكن الحق واحدا لم يكن للتقسيم معنى أو مثله قوله ضصض لأمير السرية [ وإن طلب منك أهل حصن النزول على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ] وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون لحكم الله D متعددا بتعداد المجتهدين تابعا لما يصدر عنهم من الاجتهادات فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله D ومع شريعته المطهرة هي أيضا صادرة عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل ولا عضدته شبهة تقبلها العقول وهي أيضا مخالفة لإجماع الأمة سلفها وخلفها فإن الصحابة ومن بعدهم في كل عصر من العصور ما زالوا يخطئون من خالف في اجتهاد ما هو أنهض مما تمسك به ومن شك في ذلك وأنكره فهو لا يدري بما في بطون الدفاتر الإسلامية بأسرها من التصريح في كثير من المسائل بتخطئه بعضهم لبعض واعتراض بعضهم على بعض وأما استدلال من القائلين بهذه المقالة بمثل قصة داود وسليمان فهو عليهم لا لهم فإن الله سبحانه وتعالى صرح في كتابه العزيز بأن الحق هو ما قاله سليمان ولو كان الحق بيد كل واحد منهما لما كان لتخصيص سليمان بذلك معنى وأما استدلالهم بمثل قوله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } فهو خارج عن محل النزاع لأن سبحانه قد صرح في هذه الآية بأن ما وقع منهم من القطع والترك هو بإذنه D فأفاد ذلك أن حكمه في هذه الحادثة بخصوصها هو كل واحد من الأمرين وليس النزاع إلا فيما لم يرد النص فيه بخصوصها هو كل واحد من الأمرين وأن حكمه على التخيير بين أمور يختار المكلف ما شاء منها كالواجب المخير أو أن حكمه يجب على الكل حتى يفعله البعض فيسقط على الباقين كفروض الكفايات فتدبر هذا وافهمه حق فهمه وأما استدلالهم بتصويب كل طائفة ممن صلى قبل الوصول إلى بني قريظة لمن خشي فوت الوقت وممن ترك الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة امتثالا لقوله ضصض [ لا يصلين أحد إلا في بني قريظة ] فالجواب عنه كالجواب عما قبله على أن ترك التثريب لمن قد عمل باجتهاده لا يدل على أنه قد أصاب الحق بل يدل على أنه قد أجزأه ما عمله باجتهاده وصح صدوره عنه لكونه قد بذل وسعه في تحري الحق وذلك لا يستلزم أن يكون هو الحق الذي طلبه الله من عباده وفرق بين الإصابة والصواب فإن إصابة الحق هو الموافقة بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ الحق ولم يصبه من حيث كونه قد فعل ما كلف به واستحق الأجر عليه وإن لم يكن مصيبا للحق وموافقا له وإذا عرفت هذا حق معرفته لم تحتج إلى زيادة عليه وقد حرر الصفي الهندي هذه المسألة وما فيها من المذاهب تحريرا جيدا فقال الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أولا فإن كان الأول فإما يجده المجتهد أو لا الثاني على قسمين لأنه إما أن يقصر في طلبه أو لا يقصر فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقا وإن لم يكن مع العلم ولكن قصر في البحث عنه فكذلك وإن يقصر بل بالغ في الاستكشاف والبحث ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه حكم ما لم يجده مع الطلب الشديد وسيأتي وإن لم يجده فإن كان التقصير في الطلب فهو مخطئ وآثم وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده فإن خفي عليه الراوي الذي عنده النص أو عرفه ومات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا وهل هو مخطئ أو مصيب على الخلاف الآتي فيما لا نص فيه والأولى بأن يكون مخطئا وأما التخيير يقال فيها فإما أن يقال لله فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أو لا بل إجماع وتابع لاجتهاد المجتهدين فهذا الثاني من قول من قال كل مجتهد مصيب وهو مذهب جمهور المتكلمين كالشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي والغزالي والمعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعه ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة والمشهور عنهما خلافه فإن لم يوجد في الواقعة حكم معين فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم لما حكم إلا به أو لم يوجد ذلك والأول هو القول بالأشبه وهو قول كثير من المصوبين وإليه صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن شريح في إحدى الروايتين عنه قال وأمل الثاني فقول الخلص من المصوبة انتهى