الفصل الأول في الاجتهاد المسألة الأولى : في حد الاجتهاد .
المسألة الأولى : في حد الاجتهاد وهو في اللغة مأخوذ من الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه قال المحصول وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء : فهو استفرغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفرغ الوسع فيه وهو سبيل مسائل الفروع ولهذا تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهدا وليس هكذا حال الأصول انتهى وقيل هو في الاصطلاح بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط فقولنا بذل الوسع يخرج ما يحصل مع التقصير فإن معنى بذل الوسع أن يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب ويخرج بالشرعي اللغوي والعقلي والحسي فلا يسمى من بذل وسعه في تحصيلها مجتهدا اصطلاحا وكذلك بذل الوسع في تحصيل الحكم العلمي فإنه لا يسمى اجتهادا عند الفقهاء وإن كان يسمى اجتهادا عند المتكلمين ويخرج بطريق الاستنباط نيل الأحكام من النصوص ظاهرا أو حفظ المسائل أو استعلامها من المفتى أو بالكشف عنها في كتب العلم فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي فإنه لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي وقد زاد بعض الأصوليين في هذا الحد لفظ الفقيه فقال بذل الفقيه الوسع ولا بد من ذلك فإن بذل غير الفقيه وسعه لا يسمى اجتهادا اصطلاحا ومنهم من قال هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي فزاد قيد الظن لأنه لا اجتهاد في القطعيات ومنهم من قال هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه قال ابن السمعاني هو أليق بكلام الفقهاء وقال أبو بكر الرازي الاجتهاد يقع على ثلاثة معان : أحدها القياس الشرعي لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم لجواز جودها خالية عنه لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب فذلك كان طريقة الاجتهاد والثاني ما يغلب في الظن من غير علة كالاجتهاد في الوقت والقبلة والتقويم والثالث الاستدلال بالأصول قال الآمدي هو في الاصطلاح استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه وبهذا القيد خرج اجتهاد المقصر فإنه لا يعد في الاصطلاح اجتهادا معتبرا وإذا عرفت هذا فالمجتهد هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي ولا بد أن يكون بالغا عاقلا قد ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها وإنما يتمكن من ذلك بشروط الأول أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهدا ولا يجوز له الاجتهاد ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام قال الغزالي وابن العربي والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال قيل ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والإلتزام وقد حكى المارودي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية قال الأستاذ أبو منصور يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة فقيل خمسمائة حديث وهذا أعجب ما يقال فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة وقال ابن العربي في المحصول هي ثلاثة آلاف وقال أبو علي الضرير قلت لأحمد بن حنبل كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي يكفيه مائة ألف ؟ قال لا قلت ثلاثمائة ألفظ قال لا قلت أربعمائة ؟ قال لا قلت خمسمائة ألف ؟ قال أرجو قال بعض أصحابه هذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا أو يكون العلم عن النبي ضصض ينبغي أن تكون ألفا ومائتين قال أبو بكر الرازي لا يشترط استحضار جميع ما ورد في ذلك الباب إذ لا يمكن الأحاطة به ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ما روى وقال الغزالي وجماعة من الأصوليين يكفيه أن يكون عنده أصل بجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن للبيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجمع أحاديث الأحكام ويكتفي فيه بمواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة وتبعه على ذلك الرافعي ونازعه النووي وقال لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمها وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود وكذا قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان التمثيل بسنن أبي داود ليس يجيد عندنا لوجهين : الأول أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها الثاني أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام انتهى ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب من قبيل الإفراط وبعضه من قبيل التفريط والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن كالأمهات الست وما يلحق بها مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات والكتب التي التزم مصنفوها الصحة ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له مستحضرة في ذهنه بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة الى ذلك وان يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف بحيث يعرف حال رجال الاسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح وما لا يوجبه من الأسباب وما هو مقبول منها وما هو مردود وما هو قادح .
الشرط الثاني : أن يكون عارفا بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل .
الشرط الثالث : أن يكون عالما بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه ولا يشترط أن يكون متمكنا من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك وقد قربوها أحسن تقريب وهذبوها ابلغ تهذيب ورتبوها على حروف المعجم ترتيبا لا يصعب الكشف عنه ولا يبعد الاطلاع عليه وإنما يتمكن من معرفة معانيها وخواص تراكيبها وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالما بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان حتى ثبت له في كل فن من هذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث وبصرا في الاستخراج وبصيرة في حصول مطلوبه والحاصل أنه لابد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن قال الإمام الشافعي يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه قال الماوردي ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره .
الشرط الرابع : أن يكون عالما بعلم أصول الفقه لاشتماله على نفس الحاجة إليه وعليه أن يطول الباع فيه ويطلع على مختصراته ومطولاته بما تبلغ به طاقته فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه وعليه أيضا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظرا يوصله إلى ما هو الحق فيها فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط فيه وخلط قال الفخر الرازي في المحصول وما أحسن ما قال أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه انتهى قال الغزالي إن عظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون الحديث واللغة وأصول الفقه .
الشرط الخامس : أن يكون عارفا بالناسخ والمنسوخ بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ وقد اختلفوا في اشتراط العلم بالدليل العقلي فشرطه جماعة منهم الغزالي و الرازي ولم يشترط الآخرون وهو الحق لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية لا على الأدلة العقلية ومن جعل العقل حاكما فهو لا يجعل ما حكم به داخلا في مسائل الاجتهاد واختلفوا أيضا في اشتراط علم أصول الدين فمنهم من يشترط ذلك وإليه ذهب المعتزلة ومنهم من لم يشترط ذلك وإليه ذهب الجمهور ومنهم من فصل فقال يشترط العلم بالضروريات كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه والتصديق بالرسل بما جاءوا به ولا يشترط علمه بدقائقه وإليه ذهب الآمدي واختلفوا أيضا في اشتراط على الفروع فذهب جماعة منه الأستاذ ابو إسحاق أبو منصور إلى اشتراطه واختاره الغزالي وقال إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه قالوا وإلا لزم الدور وكيف يحتاج إليها وهو الذي يولدها بعد حيازته لمنصب الاجتهاد وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل وهو كذلك ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة فإنه لا يتم العلم بها بدونه كما قدمنا وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه قالوا لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وهو كذلك ولكنه مندرج تحت علم أصول الفقه باب من أبوابه وشعبة من شعبه .
وإذا عرفت معنى الاجتهاد والمجتهد فاعلم أن المجتهد فيه الحكم الشرعي العلمي قال في المحصول المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس والزكاة وما اتفق عليه الأئمة من جليات الشرع قال أبو الحسين البصري المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية وهذا ضعيف لأن جواز اختلاف المجتهدين مشروط بكون المسألة اجتهادية باختلافهم فيها لزوم الدور