المسلك الخامس : السبر والتقسيم .
وهو في اللغة الاختبار ومنه الميل الذي يختبر به الجرح فإنه يقال له المسبار وسمي هذا به لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر كل واحدة منها هل تصلح للعلية أم لا وفي الإصطلاح هو قسمان : أحدهما أن يدور بين النفي والإثبات وهذا هو المنحصر والثاني أن يكون كذلك وهذا المنتشر فالأول أن تحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عليه ثم اختبارها في المقيس وإبطال ما لايصلح منها بدليله وذلك الابطال إما بكونه ملغى أو وصفا طرديا أو يكون فيه نقض أو كسر أو خفاء أو إضطراب فيتعين الباقي للعلية وقد يكون في القطعيات كقولنا العالم إما أن يكون قديما أو حادثا بطل أن يكون قديما فثبت أنه حادث قد يكون في الظنيات نحو أن تقول في قياس الذرة على البر في الربوبية بحثت عن أوصاف البر فما وجدت ثم ما يصلح للربوية في بادئ الرأي إلا الطعم والقوت لا يصلح لذلك بدليل كذا فتعين الكيل قال الصفي الهندي وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدا ويشترط في صحة هذا المسلك أن يكون الحكم في الأصل معللا بمناسب خلافا للغزالي وأن يقع الاتفاق على أن العلة لا تركيب فيها كما في مسألة الربا فأما لو لم يقع الاتفاق لم يكن هذا المسلك صحيحا لأن إذا بطل كونه علة مستقلة جاز أن يكون جزءا من أجزائها وإذا انضم إلى غيره صار علة مستقلة فلا بد من إبطال كونه علة أو جزء علة ويشترط أيضا أن يكون حاصرا جميع الأوصاف وذلك بأن يرافقه الخصم على انحصارها في ذلك أو يعجز عن إظهار وصف زائد وإلا فيكفي المستدل أن يقول بحثت عن الأوصاف فلم أجد سوى ما ذكرته والأصل عدم ما سواها وهذا إذا كان أهلا للبحث ونازع في ذلك بعض الأصوليين ومنهم الأصفهاني فقال قول المعلل في جواب طالب الحصر بحثت وسبرت فلم أجد غير هذه الأشياء فإن ظفرت بعلة أخرى فأبرزها وإلا فيلزمك ما يلزمني قال وهذا فاسد لأن سبره لا يصلح دليلا ما يعلم به المدلول ومحال أن يعلم طال بالحصر الانحصار ببحثه ونظره وجهله لا يوجب على خصمه أمرا واختار ابن برهان التفصيل بين المجتهد وغيره .
القسم الثاني : المنتشر وذلك بأن لا يدور بين النفي والإثبات أو دار ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه ظنيا واختلفوا في ذلك على مذاهب .
الأول : أنه ليس بحجة مطلقا لا في القطعيات ولا في الظنيات حكاه في البرهان عن بعض الأصوليين .
الثاني : أنه حجة في العمليات فقط لأنه يحصل غلبة الظن واختاره إمام الحرمين الجويني وابن برهان وابن السمعاني قال الصفي الهندي هو الصحيح .
الثالث : أنه حجة للناظر دون المناظر واختار الآمدي وقال إمام الحرمين في الأساليب إنه يفيد الطالب مذهب الخصم دون تصحيح مذهب المستدل إذ لا يمنع أن يقول ما أبطلته باطل وما اخترته باطل وحكى ابن العربي أنه دليل قطعي وعزاه إلى الشيخ أبي الحسن و القاضي وسائر أصحاب الشافعي قال وهو الصحيح فقد نطق به القرآن ضمنا وتصريحا في مواطن كثيرة فمن الضمن قوله تعالى : { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } إلى قوله { حكيم عليم } ومن التصريح قوله { ثمانية أزواج } إلى قوله { الظالمين } وقد أنكر بعض أهل الأصول أن يكون السبر والتقسيم مسلكا قال ابن الأنباري في شرح البرهان السبر يرجع إلى اختيار أوصاف المحل وضبطها والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله منها فإذا لا يكون من الأدلة وإنما تسامح الأصوليون بذلك قال ابن المنير والمسألة القاصمة لمسلك السبر والتقسيم أن المنفى لا يخلو بحال في نفس الأمر أن يكون مناسبا أو شبها أو طردا لا إنه إما إن يشتمل على مصلحة أو لا فإن اشتمل على مصلحة فإما أن تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط فالأول المناسبة والثاني الشبه وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا فهو الطرد المردود فإن كان ثم مناسبة أو شبه السبر والتقسيم وإن كان عريا عن المناسبة قطعا لم ينفع السبر والتقسيم أيضا