الباب السابع في الظاهر والمؤول وفيه ثلاثة فصول .
الفصل الأول : في حدهما فالظاهر في اللغة هو الواضح قال الأستاذ والقاضي أبو بكر لفظه يغني عن تفسيره وقال الغزالي هو المتردد بين أمرين وهو في أحدهما أظهر وقيل هو ما دل على معنى مع قبوله لإفادة غيره إفادة مرجوحة فاندرج تحته ما دل على المجاز الراجح ويطلق على اللفظ الذي يفيد معنى سواء أفاد معه إفادة مرجوحة أو لم يفد ولهذا يخرج النص فإن إفادته ظاهرة بنفسه ونقل إمام الحرمين أن الشافعي كان يسمي الظاهر نصا وقيل هو في الاصطلاح ما دل دلالة ظنية إما بالوضع كالأسد للسبع المفترس أو بالعرف كالغائط للخارج المستقذر إذ غلب فيه بعد أن كان في الأصل للمكان المطمئن من الأرض والتأويل مشتق من آل يؤول إذا رجع تقول آل الأمر إلى كذا أي رجع إليه وما آل الأمر مرجعه وقال النضر بن شميل إنه مأخوذ من الأيالة وهي السياسة يقال لفلان علينا إيالة وفلان أيل علينا أي سائس فكان المؤول بالتأويل كالمتحكم على الكلام المتصرف فيه وقال ابن فارس في فقه العربية التأويل آخر الأمر وعاقبته يقال ما آل هذا الأمر مصيره واشتقاق الكلمة من الأول وهو العاقبة والمصير واصطلاحا صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله وفي الاصطلاح حمل الظاهر على المحتمل المرجوح وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد فإن أردت تعريف التأويل الصحيح زدت في الحد بدليل يصيره راجحا لأنه بلا دليل أو مع دليل مرجوح أو مسا وفاسد قال ابن برهان وهذا الباب أنفع كتب الأصول وأجلها ولم يزل الزال إلا بالتأويل الفاسد وأما ابن السمعاني فأنكر على إمام الحرمين إدخاله لهذا الباب في أصول الفقه وقال ليس هذا من أصل الفقه في شيء إنما هو كلام يورد في الخلافيات واعلم أن الظاهر دليل شرعي يجب اتباعه والعمل به بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ وإذا عرفت معنى الظاهر فاعلم أن النص ينقسم إلى قسمين أحدهما يقبل التأويل وهو قسم من النص مرادف للظاهر والقسم الثاني لا يقبله وهو النص الصريح وسيأتي الكلام على هذا في الباب الذي بعد هذا الباب .
الفصل الثاني .
فيما يدخله التأويل وهو قسمان .
أحدهما أغلب الفروع ولا خلاف في ذلك والثاني الأصول كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري D وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب : .
الأول : أنه لا مدخل للتأويل فيها بل يجري على ظاهرها ولا يؤول شيء منها وهذا قول المشبهة .
والثاني : أن لها تأويلا ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل لقوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } قال ابن برهان وهذا قول السلف قلت وهذا هو الطريقة الواضحة والمنهج المصحوب بالسلام عن الوقوع في مهاوي التأويل لما لا يعلم تأويله إلا الله وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الاقتداء وأسوة لمن أحب التأسي على تقدير عدم ورود الدليل القاضي بالمنع من ذلك فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسنة .
والمذهب الثالث : أنها مؤولة قال ابن برهان والأول من هذه المذاهب باطل والآخران منقولان عن الصحابة ونقل هذا المذهب الثالث عن علي وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة قال أبو عمرو بن الصلاح الناس في هذه الأشياء الموهمة للجهة ونحوها فرق ثلاث : ففرقة تؤول وفرقة تشبه وثالثة ترى أنه لم يطلق الشارع مثل هذه اللفظة إلا وإطلاقه سائغ وحسن قبولها مطلقة كما قال مع التصريح بالتقديس والتنزيه والتبري من التحديد والتشبيه قال وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها واختارها أئمة الفقهاء وقادتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين يصدف عنها ويأباها وأفصح الغزالي في غير موضع بهجر ما سواها حتى ألجم آخرا في إلجامه كل عامل وعامي عما عداها قال وهذا كتاب إلجام العوام عن علم الكلام وهو آخر تصانيف الغزالي مطلقا حث فيه على مذهب السلف ومن تبعهم قال الذهبي في النبلاء في ترجمة فخر الدين الرازي ما لفظه : وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات { الرحمن على العرش استوى } { إليه يصعد الكلم الطيب } واقرأ في النفي { ليس كمثله شيء } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي انتهى وذكر الذهبي في النبلاء في تجرمة إمام الحرمين الجويني أنه قال ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة هكذا نقل عنه صاحب النبلاء في ترجمته وقال في موضع آخر في ترجمته في النبلاء إنه قال ما لفظه اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السلف انتهى وهؤلاء الثلاثة أعني الجويني والغزالي والرازي هم الذين وسعوا دائرة التأويل وطولوا ذيوله وقد رجعوا آخرا إلى مذهب السلف كما عرفت فلله الحمد كما هو له أهل وقال ابن دقيق العيد ونقوله في الألفاظ المشكلة إنها حق وصدق وعلى الوجه الذي أراده الله ومن أول شيئا منها فإن كان تأويله قريبا على ما يقتضيه لسان العرب وتفهمه في مخاطباتهم لم ننكر عليه ولم نبدعه وإن كان تأويله بعيدا توقفنا عليه واستبعدناه ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه مع التنزيه وقد تقدمه إلى مثل هذا ابن عبد السلام كما حكاه عنهما الزركشي في البحر والكلام في هذا يطول لما فيه من كثرة النقول عن الأئمة الفحول .
الفصل الثالث .
في شروط التأويل .
الأول أن يكون موافقا لوضع اللغة أو عرف الاستعمال وإعادة صاحب الشرع وكل تأويل خرج عن هذا فليس صحيح الثاني أن يقوم الدليل على أن المراد بذلك اللفظ هو المعنى الذي حمل عليه إذا كان لا يستعمل كثيرا فيه الثالث إذا كان التأويل بالقياس فلا بد أن يكون جليا لا خفيا وقيل أن يكون مما يجوز التخصيص به على ما تقدم وقيل لا يجوز التأويل بالقياس أصلا والتأويل في نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قد يكون قريبا فيترجح بأدنى مرجح وقد يكون بعيدا فلا يترجح إلا بمرجح قوي ولا يترجح بما ليس بقوي وقد يكون متعذرا لا يحتمله اللفظ فيكون مردودا لا مقبولا وإذا عرفت هذا تبين لك ما هو مقبول من التأويل مما هو مردود ولم يحتج إلى تكثير الأمثلة كما وقع في كثير من كتب الأصول