الباب الخامس في المطلق والمقيد : وفيه مباحث أربعة .
البحث الأول : في حدهما أما المطلق فقيل في حده ما دل على شائع في جنسه ومعنى هذا أن يكون حصة محتملة لحصص كثيرة مما يدرج تحت أمر فيخرج من قيد الدلالة المهملات ويخرج من قيد الشيوع المعارف كلها لما فيها من التعيين إما شخصا نحو زيد وهذا أو حقيقة نحو الرجل وأسامة أو حصة نحو { فعصى فرعون الرسول } أو استغراقا نحو الرجال وكذا كل عام ولو نكرة نحو كل رجل ولا رجل وقيل في حده هو ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي من غير أن تكون له دلالة على شيء من قيوده والمراد بها عوارض الماهية اللاحقة لها في الوجود وقد اعترض عليه بأنه جعل المطلق والنكرة سواء وبأنه يرد عليه أعلام الأجناس كأسامة وثعالة فإنها تدل على الحقيقة من حيث هي هي وأجاب عن ذلك الأصفهاني في شرحه للمحصول بأنه لم يجعل المطلق والنكرة سواء بل غاير بينهما فإن المطلق الدال على الماهية من حيث هي هي والنكرة الدالة على الماهية بقيد الوحدة الشائعة قال وأما إلزامه بعلم الجنس فمردود بأنه وضع للماهية الذهنية بقيد التشخيص الذهني بخلاف اسم الجنس وإنما يرد الاعتراض بالنكرة على الحد الذي أورده الآمدي للمطلق فإنه قال هو الدال على الماهية بقيد الوحدة وكذا يرد الاعتراض بها على ابن الحاجب فإنه قال في حده هو ما دل على شائع في جنسه وقيل المطلق هو ما دل على الذات دون الصفات وقال الصفي الهندي المطلق الحقيقي ما دل على الماهية فقط والإضافي مختلف نحو رجل ورقبة فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عامل ورقبة مؤمنة ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي لأنه يدل على واحد شائع وهما قيدان زائدان على الماهية وأما المقيد فهو ما يقابل المطلق على اختلاف هذه الحدود المذكورة في المطلق فيقال فيه هو ما دل لا على شائع في جنسه فتدخل فيه المعارف والعمومات كلها أو يقال في حده هو ما دل على الماهية بقيد من قيودها أو ما كان له دلالة على شيء من القيود .
البحث الثاني : اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقا لا مقيدا حمل على إطلاقه وإن ورد مقيدا حمل على تقييده وإن ورد مطلقا في موضع آخر فذلك على أقسام : .
الأول : أن يختلفا في السبب والحكم فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق كما حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني والكيا الهراس وابن برهان والآمدي وغيرهم .
القسم الثاني : أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر كما لو قال إن ظاهرت فأعتق رقبة وقال في موضع آخر إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة وقد نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الوهاب وابن فورك والكيا والطبري وغيرهم وقال ابن برهان في الأوسط اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل والصحيح من مذهبهم أنه يحمل ونقل أبو زيد الحنفي وأبو منصور الماتريدي في تفسيره أن أبا حنيفة يقول بالحمل في هذه الصورة وحكى الطرسوسي الخلاف فيه عن المالكية وبعض الحنابلة وفيه نظر فإن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب وهو من المالكية ثم بعد الاتفاق المذكور وقع الخلاف بين المتفقين فرجح ابن الحاجب وغيره أن هذا الحمل هو بيان للمطلق أي دال على أن المراد بالمطلق هو المقيد وقيل إنه يكون نسخا أي دالا على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد اللاحق والأول أولى وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم بين أن يكون المطلق متقدما أو متأخرا أو جهل السابق فإنه يتعين الحمل كما حكاه الزركشي .
القسم الثالث : أن يختلفا في السبب دون الحكم كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين فهذا القسم هو موضع الخلاف فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد وذهب جماعة من محققي الشافعية إلى أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد ولا يدعى وجوب هذا القياس بل يدعى أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا قال الرازي في المحصول وهو القول المعتدل قال واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين أما الأول يعني مذهب جمهور الشافعية فضعيف جدا لأن الشارع لو قال أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظا وقد احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة وأطلقت في سائر الصور حملنا المطلق على المقيد فكذا هاهنا والجواب عن الأول بأن القرآن كالكلمة الواحدة في أنها لا تتناقض لا في كل شيء وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد وعن الثاني أنا إنما قيدناه بالإجماع وأما القول الثاني يعني ذهب الحنفية فضعيف لأن دليل القياس وهو أن العمل به دفع للضرر المظنون عام في كل الصور انتهى قال إمام الحرمين الجويني في دفع ما قالوه من أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد إن هذا الاستدلال من فنون الهذيان فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة لبعضها حكم التعلق والاختصاص ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن كتاب الله فيه النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة قد ادعى أمرا عظيما انتهى ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال البعيد فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل .
وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية وهو أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل فإن قام الدليل على تقييده قيد وإن لم يقم الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة قال الرزكشي وهذا أفسد المذاهب لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائدا إليها ولا يعدل إلى غيره .
وفي المسألة مذهب خامس وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في المقيد فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل لأن التغليظ إلزام وما تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال قال الماوردي وهذا أولى المذاهب قلت بل هو أبعدها من الصواب .
القسم الرابع : أن يختلفا في الحكم نحو اكس يتيما أطعم يتيما فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين اتحد سببهما أو اختلف وحكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب .
البحث الثالث : اشترط القائلون بالجمل شروطا سبعة : .
الأول : أن يكون المقيد من باب الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين فأما في إثبات أصل الحكم من زيادة أو عدد فلا يحمل أحدهما على الآخر وهذا كإيجاب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء مع الاقتصار على عضوين في التيمم فإن الإجماع منعقد على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء حتى يلزم التيمم في الأربعة الأعضاء لما فيه من إثبات حكم لم يذكر وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفات كما ذكرنا وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي والشيخ أبو حامد الإسفرائني والماوردي والروياني ونقله الماوردي عن الأبهري من المالكية ونقل الماوردي أيضا عن ابن خيران من الشافعية أن المطلق يحمل على المقيد في الذات وهو قول باطل .
الشرط الثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها فهي شرط في الجمع وكذا تقييد ميراث الزوجين بقوله : { من بعد وصية توصون بها أو دين } وإطلاق الميراث فيما أطلق فيه فيكون ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين فأما إذا كان المطلق دائرا بين قيدين متضادين نظر فإن كان السبب مختلفا لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل فيحمل على ما كان القياس عليه أولى أو ما كان دليل الحكم عليه أقوى وممن ذكر هذا الشرط الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والماوردي وحكى القاضي عبد الوهاب الاتفاق على اشتراطه قال الزركشي وليس كذلك فقد حكى القفال الشاشي فيه خلافا لأصحابنا ولم يرجح شيئا .
الشرط الثالث : أن يكون في باب الأوامر والإثبات أما في جانب النفي والنهي فلا فإنه يلزم منه الإخلال باللفظ المطلق مع تناول النفي والنهي وهو غير سائغ وممن ذكر هذا الشرط الآمدي وابن الحاجب وقالا لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما لعدم التعذر فإذا قال لا تعتق مكاتبا كافرا ولا مسلما إذ لو أعتق واحدا منهما لم يعمل بهما وأما صاحب المحصول فسوى بين الأمر والنهي ورد عليه القرافي بمثل ما ذكره الآمدي والنهي بل يجري في جميع أقسام الكلام قال الزركشي وقد يقال لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي والنهي وما ذكروه من المثال إنما هو من قبيل أفراد بعض مدلول العام وفيه ما تقدم من خلاف أبي ثور فلا وجه لذكره هاهنا انتهى والحق عدم الحمل في النفي والنهي وممن اعتبر هذا الشرط ابن دقيق العيد وجعله أيضا شرطا في بناء العام على الخاص .
الشرط الرابع : أن لا يكون في جانب الإباحة قال ابن دقيق العيد إن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة إذ لا تعارض بينهما وفي المطلق زيادة قال الزركشي وفيه نظر .
الشرط الخامس : أن لا يمكن الجمع بينهما إلا بالحمل فإن أمكن بغير إعمالهما فإنه أولى من تعطيل ما دل عليه أحدهما ذكره ابن الرفعة في المطلب .
الشرط السادس : أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد فلا يحمل المطلق على المقيد هاهنا قطعا .
الشرط السابع : أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد فإن قام دليل على ذلك فلا تقييد .
البحث الرابع : اعلم أن ما ذكر في التخصيص للعام فهو جار في تقييد المطلق فارجع في تفاصيل ذلك إلى ما تقدم في باب التخصيص فذلك يغنيك عن تكثير المباحث في هذا الباب .
فائدة .
قال في المحصول إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين متضادين كيف يكون حكمه ؟ مثاله قضاء رمضان الوارد مطلقا في قوله سبحانه : { فعدة من أيام أخر } وصوم التمتع الوراد مقيدا بالتفريق في قوله { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } وصوم كفارة الظهار الوارد مقيدا بالتتابع في قوله { فصيام شهرين متتابعين } قال فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظا ترك المطلق هاهنا على إطلاقه لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر ومن حمل المطلق على المقيد لقياس حمله هاهنا على ما كان القياس عليه أولى انتهى وقد تقدم في الشرط الثاني من المبحث الذي قبل هذا المبحث الكلام في المطلق الدائر بين قيدين متضادين وإنما ذكرنا هذه الفائدة لزيادة الإيضاح