[ ص 374 ] فقال : أمَّا ما قُلْتَ مِن ألاَّ تَقْبَلَ الحديثَ إلاَّ عنْ ثِقَةٍ حافِظٍ عالِمٍ بما يُحِيلُ معنى الحديث : فكَما قلْتَ فَلِمَ لمْ تَقُلْ هكذا في الشهادات ؟ .
فقلْتُ : إنَّ إحالةَ معنى الحديث أخْفَى مِن إحالة معنى الشهادة وبهذا احْتطتُ في الحديث بأكثرَ مما احتطتُ به في الشهادة .
قال : وهكذا كما وصفْتَ ولكِنِّي أنْكرْتُ - إذا كان مَنْ يُحَدَّثُ عنه ثِقةً فحَدَّثَ عنْ رجلٍ لم تعرِفْ أنْت ثقتَه - : [ ص 375 ] امْتِناعَكَ من أنْ تُقَلِّدَ الثقةَ فَتُحْسِنَ الظَّنَّ به فلا تترُكَه يَرْوِي إلاَّ عن ثقةٍ وإنْ لم تعْرِفْهُ أنْتَ ؟ .
فقلتُ له : أرأيْتَ أربعَةَ نَفَرٍ عُدولٍ فُقَهاءَ شَهِدوا على شهادة شاهدَين بِحَقٍّ لِرَجُلٍ على رجل : أكنْتَ قاضِيًا به ولم يقل لك الأربعةُ : إنَّ الشاهدَين عَدْلانِ ؟ .
قال : لا ولا أقطع بشهادتهما شيئاً حتى أعْرِفَ عدْلَهُما إمَّا بتعديل الأربعة لهما وإمَّا بتعديل غيرِهم أو مَعْرِفَةً مِنِّي بِعدْلهما .
فقلتُ له : ولِمَ لَمْ تَقْبَلْهُما على المعنى الذي أمرْتني أن أقْبَلَ عليه الحديثَ فتقولَ : لم يكونوا لِيَشْهَدوا إلاَّ عَلَى مَنْ هو أعْدَلُ عندهم ؟ .
فقال : قد يَشْهدون على مَنْ هو عدْلٌ عنْدهم ومَنْ [ ص 376 ] عَرَفوه ولمْ يَعْرِفوا عدْلَه فلَمَّا كان هذا موْجوداً في شهادَتهم لم يكن لي قبولُ شهادةِ مَنْ شهِدوا عليه حتى يُعَدِّلوه أوْ أعرِفَ عدْلَه و عدْلَ مَنْ شَهِدَ عِنْدي على عدْل غيْرِه ولا أقْبَلُ تعديلَ شاهِدٍ على شاهدٍ عَدَّلَ الشاهدُ غيرَه ولمْ أعْرف عدْلَهُ .
فقلتُ : فالحجة في هذا لكَ الحُجَّةُ عليك : في ألاَّ تَقْبَلَ خبَرَ الصَّادِق عَن منْ جَهِلْنا صدْقَه .
والناس مِن أنْ يشْهَدوا على شهادَة مَنْ عرَفوا عدْلَه : أشَدُّ تَحَفُّظًا مِنْهُمْ مِنْ أنْ يَقْبَلُوا إلاَّ حديثَ مَنْ عرَفوا صِحَّةَ حديثه .
وذلك : أنَّ الرجل يَلْقَى الرجُلَ يَُرَى عليه سِيما الخير فيُحْسنُ الظنَّ به فيَقْبلُ حديثَه ويقْبَلُه وهو لا يَعْرِف [ ص 377 ] حالَه فيَذْكُرُ أنَّ رجُلاً يُقال له : ( فلان ) حدَّثَنِي كذا إمَّا على وجْهٍ يرْجو أنْ يجِدَ عِلْمَ ذَلِك الحديث عنْدَ ثِقة فيقبَلَه عن الثقة وإمَّا أن يحدث به على إنكاره والتعجب منه وإمَّا بِغفْلةٍ في الحديث عنه .
ولا أعْلَمُنِي لَقِيتُ أحَداً قَطُّ بَرِيًّا مِن أنْ يحدث عنْ ثِقةٍ حافِظٍ وآخَرَ يُخَالِفه .
ففَعَلْتُ في هذا ما يجبُ عليَّ .
ولم يكن طَلَبِي الدَّلائلَ على معرفة صِدق مَنْ حدَّثني بأوْجَبَ عليَّ مِن طلبي ذلك على معرفة صدْقِ مَن فَوْقَه لأني أحتاجُ في كلهم إلى ما أحتاج إليه فيمن لقِيتُ مِنهم لأنَّ كلَّهم مُثْبِتٌ خَبَرًا عن من فوقه ولِمَنْ دونه