الغرض من صلاة الجمعة هو أن يجتمع الناس في مكان واحد خاشعين لربهم فتتوثق بينهم روابط الإلفة وتقوى صلات المحبة وتحيا في أنفسهم عاطفة الرحمة والرفق وتموت عوامل البغضاء والحقد وكل منهم ينظر إلى الآخر نظرة المودة والإخاء فيعين قويهم ضعيفهم ويساعد غينيهم فقيرهم ويرحم كبيرهم صغيرهم ويوقر صغيرهم كبيرهم ويشعرون جميعا بأنهم عبيد الله وحده وأنه هو الغني الحميد ذو السلطان القاهر والعظمة التي لا حد لها .
ذلك بعض أغراض الشريعة الإسلامية من حيث الناس على الاجتماع في العبادة ومما لا ريب فيه أن تعدد المساجد لغير حاجة يذهب بهذه المعاني السامية لأن المسلمين يتفرقون في المساجد . فلا يشعرون بفائدة الاجتماع ولا تتأثر أنفسهم بعظمة الخالق الذي يجتمعون لعبادته خاضعين متذللين فمن أجل ذلك قال بعض الأئمة : إذا تعددت المساجد لغير حاجة فإن الجمعة لا تصح إلا لمن سبق بها في هذه المساجد فمن سبق بيقين كانت الجمعة له وأما غيره فإنه يصليها ظهرا وإليك بيان آراء المذاهب في هذا الموضوع تحت الخط ( الشافعية قالوا : إما أن تتعدد الأمكنة التي تقام فيها الجمعة لغير حاجة إلى هذا التعدد أو تتعدد لحاجة كأن يضيق المسجد الواحد عن أهل البلدة فإذا تعددت المساجد أو الأمكنة التي تقام فيها الجمعة لغير حاجة كانت الجمعة لمن سبق بالصلاة بشرط أن يثبت يقينا أن الجماعة التي صلت في هذا المكان سبقت غيرها بتكبيرة الإحرام أما إذا لم يثبت ذلك بل ثبت أنهم صلوا جميعا في وقت واحد بأن كبروا تكبيرة الإحرام معا أو وقع شك في أنهم كبروا معا أو سبق أحدهم بالتكبير فإن صلاتهم تبطل جميعا وفي هذه الحالة يجب عليهم أن يجتمعوا معا ويعيدوها جمعة إن أمكن ذلك وإن لم يمكن صلوها ظهرا . أما إذا تعددت لحاجة فإن الجمعة تصح في جميعها ولكن يندب أن يصلوا الظهر بعد الجمعة .
المالكية قالوا : إذا تعددت المساجد في بلد واحد فإن الجمعة لا تصح إلا في أول مسجد أقيمت فيه الجمعة من البلد ولو كان بناءه متأخرا مثلا إذا كان في البلد - زوايا - لم تقم فيها الجمعة ثم بني مسجد أقيمت فيه الجمعة ثم بني بعده مسجد آخر أقيمت فيه الجمعة فإن الجمعة لا تصح إلا في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة أولا ولكن هذا الحكم عندهم مشروط بأربعة شروط : أحدها : أن لا يهجر القديم بالصلاة في الجديد بأن يترك الناس الصلاة في القديم رغبة في الجديد بدون عذر ثانيها : أن يكون القديم ضيقا ولا يمكن توسعته فيحتاج الناس إلى الجديد - والمسجد الضيق هو الذي لا يسع من يغلب حضورهم الجمعة وإن لم تكن واجبة عليهم - ثالثها : أن لا يخشى من اجتماع أهل البلدة في مسجد واحد حدوث فتنة أو فساد كما إذا كان بالبلدة أسرتان متنافستان إحداهما شرقي البلد والثانية غربيها فإنه يصح لكل منهما أن تتخذ لها مسجدا خاصا رابعها : أن لا يحكم حاكم بصحتها في المسجد الجديد .
الحنابلة قالوا : تعدد الأماكن التي تقام فيها الجمعة في البلد الواحد إما أن يكون لحاجة أو لغير حاجة فإن كان لحاجة كضيق مساجد البلد عمن تصح منهم الجمعة وإن لم تجب عليهم وإن لم يصلوا فعلا - فإنه يجوز وتصح الجمعة سواء أذن فيها ولي الأمر أو لم يأذن وفي هذه الحالة يكون الأولى أن يصلي الظهر بعدها أما إن كان التعدد لغير حاجة فإن الجمعة لا تصح إلا في المكان الذي أذن بإقامتها فيه ولي الأمر ولا تصح في غيره حتى ولو سبقت وإذا أذن ولي الأمر بإقامتها في مساجد متعددة لغير حاجة أو لم يأذن أصلا فالصحيحة منها ما سقت غيرها بتكبيرة الإحرام فإن وقعت الصلاة في وقت واحد بأن كبروا تكبيرة الإحرام معا بطلت صلاة الجميع إن تيقنوا ذلك ثم إذا أمكن إعادتها جمعة أعادوها وإلا صلوها ظهرا أما إذا لم تعلم الجمعة السابقة فإن الجمعة تصح في واحد غير معين فلا تعاد جمعة ولكن يجب على الجميع أن يصلوا ظهرا .
الحنفية قالوا : تعدد الأماكن التي تصح فيها الجمعة لا يضر ولو سبق أحدها الآخر في الصلاة على الصحيح ولكن إذا علم يقينا من يصلي الجمعة في مسجد أن غيره سبقه من المصلين في المساجد الأخرى فإنه يجب عليه أن يصلي أربع ركعات بنية آخر ظهر بتسليمة واحدة والأفضل أن يصليها في منزله حتى لا يعتقد العامة أنها فرض وقد عرفت أن الواجب عند الحنفية أقل من الفرض وإن شئت قلت : إنه سنة مؤكدة . أما إذا شك في أن غيره سبقه فإنه يندب له أن يصلي أربع ركعات بنية آخر ظهر فقط وعليه أن يقرأ في كل ركعة سورة أو ثلاث آيات قصار لاحتمال أن تكون هذه الصلاة نافلة وقد تقدم أن قراءة السورة ونحوها واجبة في جميع ركعات النفل وهل يصلي الركعات الأربع المذكورة قبل صلاة أربع ركعات سنة الجمعة أو بعدها ؟ والجواب : يصليها بعدها فإذا صلاها قبلها فقد خالف الأولى والأمر في ذلك سهل وعلى هذا يطلب ممن يصلي الجمعة أن يصلي بعدها أربع ركعات سنة الجمعة ثم يصلي بعدها أربع ركعات بنية آخر ظهر على الوجه المتقدم ثم يصلي بعدها ركعتين سنة وقت الظهر كما تقدم في السنن )