مبحث في حكم الفعلين .
الحنفية قالوا : ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدا قبل أن تبرأ يده أو قطع يده عمدا ثم قتله خطأ أو قطع يده خطأ فبرأت يده ثم قتله خطأ أو قطع يده عمدا فبرأت ثم قتله عمدا فإنه يؤخد بالأمرين جميعا فإن الصل فيه : أن الجمع بين الجراحات واجب ما أمكن تتميما للأول لأن القتل في الأعم يقع بضربات متعاقبة وفي اعتبار كل ضربة بنفسها بعض الحرج إلا أن لا يمكن الجمع فيعطى كل واحد حكم نفسه وقد تعذر الجمع فيهذه الصور في الأولين لاختلاف حكم الفعلين وضعا موجبا لأن احد الفعلين خطأ والثاني عمد وفي الآخرين متعذر الجمع أيضا لتخلل البرء فلا جمع اصلا لأن الفعل الأول قد انتهى فا البرء قاطع للسراية فيكون القتل بعده ابتداء فلا بد من اعتبار كل واحد منهما حتى لو لم يتخلل وقد تجانسا بأن كانا خطأين فإنه يجمع بين الأمرين بالإجماع لإمكان الجمع واكتفى بدية واحدة حيث انفى المانع من الجمع وهو تخلل البرء والاختلاف .
وإن تجانسا عمدا بأن كان قطع يده عمدا ثم قتله عمدا قبل أن تبرأ يده فقد اختلف فيه .
قال الإمام أبو حنيفة C : الولي بالخيار بين أن يقطع ثم يقتل وبين أن يكتفي بالقتل وبين أن يكتفي بالقتل .
وقال الصاحبان : يقتل ولا تقطع يده لأن الجمع ممكن لتجانس الفعلين وعدم تخلل البرء بينهما فيجمع بينهما .
وقال أبو حينفة : أن الجمع متعذر إما للاختلاف بين الفعلين هذين لأن الموجب القود وهو يعتمد المساواة في الفعلنوذك بأن يكون القتل بالقتل والقطع بالقطع وهو متعذر أو لأن الحر يقطع إضافة السراية إلى القطع حتى لو صدر من شخصين يجب الوقد على الحاز فصار كتخلل البرء بخلاف ما إذا قطع وسرى لأن الفعل وواحد وبخلاف ما إذا كانا خطأينن لأن الموجب الدية وهي بدل النفس من غير اعتبار المساواة .
قال الإمام أبو حنيفة : ولأن أرش اليد إنما يجب عند استحكام أثر الفعل وذلك بالحز القاطع للسراية فيجتمع ضمان الكل وضمان الجزء في حالة واحدة وهي حالة الحز وفي ذلك تكرار دية اليد لأن ضمان الكل يشملها والتكرار غير مشروع فلا يجتمعان أما القطع والقتل قصاصا يجتمعان لأن مبنى القصاص المساواة وهي إنما تتحقق باجتماعهما لأن العمد مبناه على التغليظ والتشديد ولهذا تقتل العشرة بالواحد وفي مراعاة صورة الفعل معنى التغليظ فيجوز اعتباره فيه وأما الخطأ فمبناه على التخفيف ألا ترى أن الدية لا تتعدد بتعدد القاتلين فاعتبار التغليظ فيه لا يكون مناسبا .
ومن ضرب رجلا مائة سوط فبرأ من تسعين ومات من عشرة ففيه دية واحدة لأنه لما برأ منها لا تبقى معتبرة في حق الأرش وإن بقيت معتبرة في حق التعزير فبقي الاعتبار للعشرة أسواط وكذلك كل جراحة اندملت ولم يبق لها أثر على أصل أبي حنيفة وعند أبي يوسف في مثله حكومة عدل وعن محمد أنه تجب أجرة الطبيب . وإن ضرب رجلا مائة سوط وجرحته وبقي له أثر تجب حكومة العدل لبقاء الثر والأرش إنما يجب باعتبار الأثر في النفس بأن لم يبرأ وليس ذلك بموجود بل الأثر هو الموجود فإن لم يجرح في الابتداء فلا يجب شيء باتفاقن وإن جرح واندمل ولم يبق لها أثر فكذلك كما هو رأي أبي حنيفة C لأنه لم يكن إلا مجرد الألم وهو لا يوجب شيئا كما لو ضربه ضربا مؤلما .
الشافعية والحنابلة رحمهم الله - قالوا : إذا قطع الرجل يد شخص ثم بعد القطع قتل الشخص القاطع الشخص المقطوعة يده فإنه يجب أن تقطع يد القاطع اولا ثم بعد القطع يجب أن يقتل حدا طلبا للمماثلة قال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .
وإن قطع رجل يد شخص آخر فمات المقطوعة يده من ذلك القطع بسبب السراية فقطع يد الرجل القاطع فإن مات الجاني الذي قطعت يده بسبب السراية فالأمر ظاهر وهو المطلوب من مراعاة القصاص وإن لم يمت بقطع يده قتل لتحقق الممالثلة بالقصاص .
قالوا : ويجوز للولي أن ينتظر للولي أن ينتظر بعد القطع هل يموت سرايةن أم لا ؟ فله بعد ذلك المبادرة إلى حز بقبته بالسيف قصاصا ويجوز له حزها ابتداء كما في المسألة الولى لا ستحقاقه له .
قالوا : لو جرح إنسان شخصا جراحة واحدة وجرحه شخص آخر بعد مائة جراحة ومات بسبب الواحدة والمائة وكانت تلك الجراحة الواحدة والجراحات المائة لو انفردت كل منهما لقتلت لزم صاحب الجراحة الواحدة وصاحب المائة جراحة القصاص مطلقا سواء تواطآ على قتله معا أم لا ؟ إذ رب جرح له نكاية في الباطن اخطر من جروح متعددة فإن كان فعل كل واحد منهما لا يقتل لو انفرد عن الآخر لكنه له دخل في القتل . ففيه تفصيل فإن تواطآ قتلا وإلا فلا يقتلان وتجب عليهما الدية لأنه شبه عمد . وإن كان جرح أحدهما يقتل لو انفرد وجرح الآخر لا يقتل لو انفرد لكن له دخل في القتل فلك حكمه فصاحب الأول يقتل مطلقا والثاني يقتل إن كان متفقا على قتله وإن لم يكن متفقا فلا يقتل وتجب عليه حصته من الدية .
وأما إذا كان ضرب أحدهما خفيفا بحيث لا يؤثر في القتل اصلا كالضرب بطرف الثوب مثلا أو الضرب بسوط صغير فإنه لا شيء على صاحبه فلا دخل له في قصاص ولا دية وموته موافقة قدر .
وأما إذا قطع الجاني الثاني بجنايته جناية الأول بأن يقطع الأول من المجني عليه يده أو رجله مثلا ويقطع الثاني رقبته أو يقده نصفين فالأول جارحن عليه قصاص اليد أو الرجل أو ديتها والثاني قاتل لأنه قطع جناية الأول وأزهق روحه فيجب عليه القصاص دون الأول .
قالوا : إذا وجد من شخصين مجتمعين في زمن واحد فعلانن مزهقان للروح بحيث لو انفرد كل منهما لامكن إحالة الإزهاق عليه وهما مسرعان للقتل كحز للرقبة وقد للجثة أو غير مسرعين للقتل كقطع عضوين وما منهما فهما قاتلان في هذه الأحوال المذكورةن فيجب عليهما القصاص وكذلك يجب عليهما الدية إذا وجبت لوجود السبب منهما وإن لم يوجد الفعلان معا في وقت واحد : بل ترتبا بأن أنهاه رجل مثلا إلى حركة مذبوح وهي التي لم يبق معها ابصار ولا نطق اختياري ولا حركة اختيار ويقطع بموته بعد يوم أو ايام وتسمى حالة اليأس وهي التي اشترط وجودها في حالة إيجاب القصاص وهي التي لا يصح فيها إسلام ولا ردة ولا شيء من التصرفات وينتقل فيها ماله لورثته الحاصلين حينئذ لا لمن حدث . ولو مات له قريبلم يررثه دون الحياة المستمرة وهي التي لو ترك معها لعاش ثم جنى ضخص آخر على المجني عليه بعد الانتهاء لحركة مذبوح فالأول منهما قاتل قطعا فيجب عليه القصاص أن كان القتل عمدا والدية أن كان القتل خطأ لأنه صيره إلى حالة الموت والثاني يجب تقريره بما يراه الإمام لهتكه حرمه الموت كما لو قطع عضوا من شخص بعد موته .
وإن جنى الثاني منهما قبل الانتهاء إلى درجة مذبوح بأن جرحه أو قطع عضوا منه فجاء الثاني بعده وحز رقبته أو قعطه نصفين وأزهق روحه فالثاني قاتل بالاتفاق ويجب عليه القصاص لأن الجرح إنما يقتل بالسراية وحز الرقبة وقد الجثة بقعط اثنينن فتعين القتل منه ولا فرق أن يتوقع البرء من الجراحة السابقة أو يتيقين الهلاك بها بعد يوم أو أيام أيام لأنه له في الحال حياة مستقرة وقد عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يوم إصابته وهو في هذه الحالة الخطرة وعمل الصحابة رضوان الله عليهم بعده الذي عاهدهم به ووصاياه التي أوصاهم بها ويجب على الجاني الأول قصاص العضو المقطوع أو مال بحسب الحال من عمد أو غيره وإن لم يزفف الثاني أيضا أي لم يصل به إلى الهلاك كأن قطع الأول يده من الكوع مثلا والثاني قطعهما من المرفق ثم مات المجني عليه بسبب سراية القطعين فهما قاتلان بسبب السراية .
ولا يقال : أن أثر القطع الثاني أزال أثر القطع الأول لأن الموت حدث بهما معا .
قالوا : ولو قتل مريضا وهو في حالة النزع الأخير وعيشه عيش مذبوح فإنه يجب عليه القصاص بقتله لأنه يجوز أن يمد الله في أجله ويعيش فإن موته غير محقق لأن الآجال لا يعلمها إلا الله تعالى .
قال الإمام الشافعي C تعالى : ولو انتهى المريض إلى سكرات الموت وبدت مخايله فلا يحكم له بالموت . وإن كان يظن أنه في حالة المقدود .
وقرقوا بأن انتهاء المريض إلى تلك الحالة غير مقطوع به وقد يظن موته ثم يشفى بخلاف المقدود ومن في معناه ولأن المريض لم يسبق فيه فعل بحال القتلى وأحكامه عليه حتى يهدر الفعل الثاني .
ولو جرح واحد شخصا جرحين عمدا وخطأ ومات بهما لم يجب عليه القصاص لاختلاف وصف الفعلين حيث أن أحد الجرحين عمد والآخر خطأ فاختلفا أو جرحه جرحين مضمونا وغير مضمون . كمن جرح حربيا أو مرتدا أو عبد نفسه أو صائلا ثم اسلم المرتد أو أمن الحربي أو عتق العبد المجروح أو رجل الحيوان الصائل وجرحه الجاني بعد ذلك ثانيا ومات بالجرحين فلا يجب عليه القصاص في هذه الصور أو جرح شخصا بحق كقصاص وسرقة ثم جرحه بعد ذلك مرة ثانية عدوانا أو جرح حربيا ثم أسلم ثم جرحه ثانيا فمات بالسراية لا يجب قتله في مثل هذه الأحوال .
أما في الحالة الأولى عمدا وخطأ فلأن الزهوق لم يحصل بالعمد المحض فيجب عليه نصف الدية المغلظة في ماله خاصة ويجب نصف الدية المخففة على عاقلته في الخطأ وأما في باقي الصور فلأن الموت حصل بمضمون وغير مضمون فغلب عليه مسقط القصاص وثبت موجب الجرح الثاني من قصاص وغيره ولو وقعت إحدى الجراحتين بأمره للصبي غير المميز أو المجنون الذي لا يفيق فلا يجب عليه القصاص بل تجب نصف الدية على العاقلة لأن عمد الصبي والمجنون خطأ ولأن غير المميز يصبح كالآلة .
ولو راوى المجروح جرحه بسم قاتل في الحال كأن شربه أو وضعه على الجرح فلا قصاص ولا دية على جارحه في لنفس لأن المجروح قتل نفسه فصار كما لو جرحه إنسان فذبح هو نفسه أما الجرح الحادث على الجارح ضمانه سواء علم المجروح حال السم أو لا .
وإن قتل غالبا وعلم المجروح حاله فشريك جارح نفسه في أصح الطريقين ويكون عليه القود في أظهر المذاهب تنزيلا لفعل المجروح منزلة العمد .
وقيل : هو شريك مخطئ لأنه قصد التداوي فأخطأ فلا قود على شريكه أما لو قصد قتل نفسه بالسم ليستريح من الألم مثلا فهو شريك قاتل نفسه قطعا فلا قصاص ولا دية وإذا كان المجروح لا يعلم بالسم فلا قصاص جزما لأنه شريك مخطئ ولو خاط المجروح جرحه في لحم ولو تداويا خياطة تقتل غالبا ففي القصاص الطريقان بخلاف ما لو خاطه في لحم ميت فإنه لا اثر له ولا للجلد كما فهم بالأولى لعدم الإيلام المهلك فعلى الجارح القصاص أو كمال الدية ولو خاطه غيره بلا أمر منه اقتص منه ومن الجارحن وإن كان الذي خاط الجرح حكما لتعديه مع الجارح فإن خاطه الطبيب لصبي أو مجنون لمصلحة فلا قصاص عليه ولو قصد المجروح أو غيره الخياطة في لحم ميت فوقع في لحم حي فالجارح وشريك مخطئ وكذا لو قصد الخياطة في الجلد فوقع في اللحم والكي فيما ذكر كالخياطة فيه ولا أثر لدواء لا يضر ولا نظر للقروح .
المالكية قالوا : إن تعدد مباشر على ما دون النفس بلا اتفاق منهم وتميزت الجراحات وعلم فعل كل واحد منهم فيقتص من كل بقجر ما فعل ولا ينظر لتفاوت العضو بالرقة والغلظ وإذا اتفقوا فيجب أن يقتص من كل بقدر الجميع سواء تميزت الجراحات أم لا قياسا على قتل النفس فإن الجميع عند الاتفاق يقتلون بالواحد أما إذا لم تتميز الجراحات عند عدم الاتفاق فهل يلزمهم دية الجميع ولا قصاص ؟ أو يقتص من كل بقدر الجميع فإذا كانوا ثلاثة قلغ أحدهم عينه والثاني قطع يده والثالث قطع رجله ولم يعلم من الذي فقأ العين وقطع الرجل وقطع اليد والحال أنه لا تمالؤ بينهم اقتص من كل بفقء عينه وقطع يده وقطع رجله وفيه نظر فالأظهر الأول . إذا لم يقع الفعل من كل واحد .
وتندرج الأطراف في النفس كقطع يد الطرف ثم قتله فقط أما إن كانت فإنه يندرج في النفس أن تعمد الجاني قطع النفس بل يجب عليه الدية للطرف ثم الجناية على الطرف خطأ فلا تندرج في يد أو رجل أو فقء عين من شخص ثم قتله القصاص .
هذا إذا كان الطرف المقطوع من المقتول .
أما إذا كان الطرف لغير المقتول كقطع يد شخص وفقء عين آخر وقتل رجل ثالث عمدا فتندرج الأطراف في النفس ولا تقطع يده ثم يقتل .
قالوا : ومحل اندراج طرف المقتول في النفس إذا لم يقصد الجاني المثلة بالمجني عليه المقتول فإن قصد المثلة به فإنه يقتص منه للطرف ثم يقتل بعد ذلك . وأما طرف غير المقتول فإنه يندرج في القتل ولو قصد الجاني المثلة بهم على الرأي الراجح من المذهب .
قالوا : وكما تندرج الأطراف في النفس تندرج الأصابع إذا قطعت عمدا في قطع اليد عمدا بعدها ما لم يقصد المثلة به سواء كانت من يد من قطعت أصابعه أو يد غيره فإذا قطع اصابع شخص عمدا ثم قطع كفه عمدا بعد ذلك فقطع الجاني من الكوع .
ولو قطع أصابع رجل ويد رجل آخر من الكوع ويد ثالث من المرفق قطع لهم من المرفق إن لم يقصد المثيل به فإن قصد المثلة بفعله السابق لم يندرج في الصورتين بل تقطع أصابعه أولا ثم كفه بعد ذلك في الصورة الأولى .
وفي الصورة الثانية تقطع أصابعه أولا ثم تقطع يده من الكوع للجناية الثانية ثم تقطع يده من المرفق للجناية الثالثة حتى يشعر بالألم الذي تسبب فيه لغيره وتحصل المماثلة في القصاص .
قالوا : ويؤخر القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد أو حر يخاف منه الموت على الجاني لئلا يموت فيلزم اخذ نفس بدون نفس وكذا يؤخر الجاني إذا كان مريضا حتى يبرأ ويؤخر القصاص فيما دون النفس حتى يبرأ الجروح لاحتمال أن يموت بسبب السراية فيكون الواجب القتل بقسامة كدية الجرح الخطأ فيؤخر إلى برء المجروح خوف أن يسري على النفس فتؤخذ الدية كاملة فإن برىء الجرح على غير شين فلا دية ولا أدب لأنه لا يعتمد في الشرع وإن برىء الجرح المقطوع على شين فتجب حكومة عدلين لهما معرفة بهذه الأشياء فيقوم على فرض أنه رقيق سالما بعشرة مثلا ثم معيبا بتسعة مثلا فالتفاوت بين القيمتين هو العشر في المثال فقد نقصت الجناية العشر فيلزم الجاني بنسبة ذلك من الدية كمائة دينار وقيل : يجتهدان بالفكر فيما يستحقه المجني عليه من الجاني