- وقد عرفت أن القصاص يسقط بالعفو أو الصلح بخلاف الحد فإنه لا يسقط بالعفو لأنه حق الله تعالى ولكن هذا هو رأي الحنفية .
أما غيرهم فإنهم يقولون : إن الذي لا يسقط بالعفو هو حد الزنا وحد السرقة بعد رفع الأمر إلى الحاكم وأما حد القذف فإنه يسقط بالعفو مطلقا وإذا كنت على ذكر مما بيناه لك سابقا من أن حد الزنا لا يقع إلا إذا شهد بالجريمة اربعة شهود رأوا بأعينهم الفعل نفسه وذلكمتعذرن لا يمن تحقيقه عمليا فإن تنفيذه يكون منوطا بإقرار الجاني وحده .
أما حد الشرب فبعضهم يرى أنه من بابب التعزير .
وعلى هذا يمكن أن يقال : إن الحد الذي يتصور وقوعه ولا يسقط بالعفو هو حد السرقة بعد رفعه إلى الحاكم على الوجه الذي بيناه سابقا ( 1 ) .
( 1 ) ( اختلف العلماء في هل القصاص يكفر ذنب الجاني أم لا ؟ .
فقال بعضهم : إن إقامة الحد على القاتل والقصاص منه إذا رضي به وتاب فإنه يكفر عنه ثم القتل لقول A : ( الحدود كفارات لأهلها ) فعمم ولم يخصص فعلا عن غيره ولأن الله تعالى أكرم وأرحم بعبده أن يعذبه مرتين مرة في الدنيا بالقود ومرة في الآخرة بالنار وهو الراجح .
وقال بعضهم : إن القصاص لا يكفر الذنب ولا يرفع عنه الإصم في الآخرة لأن المقتول ظلما لا منفعة له في القصاص البتة وإنما القصاص منفعته للأحياء فقط لينتهني الناس عن القتل .
قال تعالى : { ولكم في القصاص حياة } ولما روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي A قال : ( يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول : يارب سل هذا فيم قتلني ؟ قال : فيقول : قتلته لكتون العزة لك فيقول : فإنها لي قال : ويجيء آخر متعلقا بقاتله يقول : رب سل هذا فيم قتلني ؟ قال : فيقول : قتلته لتكون العزة لفلان قال : فإنها ليست له بؤ بإثمه فيهوي في النار سبعين خريفا ) وفي الباب أحاديث كثيرة وأما الحديث الذي ورد في أن الحدود تكفر الذنوب فإنه يختص بالحدود التي فيها حق الله تعالى .
المالكية والحنابلة والشافعية - قالوا : العمد إما يوجب القصاص جزاما مثل قتل المرتد مرتدا فإن الواجب فيه القود جزما .
وإما أن يوجب الدية جزما كما أذا قتل الوالد ولده أو إذا قتل المسلم الذمي فإن موجبه الدية قطعا . أو التخيير بين القصاص والدية فيجوز للولي العفو عن القود على الدية بغير رضا الجاني لما روى البيهقي عن مجاهد وغيره ( كان في شرع موسى A تحتم القصاص جزما وفي شرع عيسى A الدية فقط فخفف الله تعالى عن هذه الأمة وخيرها بين الأمرين ) لما في الإلزام بأحدهما من المشقة ولأن الجاني محكوم عليه فلا يعتبر رضاه كالمحال عليه والمضمون عنه ولو عفا عن عضو من أعضاء الجاني سقط كلهن كما أن تطليق بعض المرأة تطليق لكلها ولو عفا بعض المتستحقين سقط أيضا وإن لم يرض البعض الآخر وانتقل الأمر إلى الدية لأن القصاص لا يتجزأ ويغلب فيه جانب السقوط لحقن الدماء ولا يؤثر فيه الجهل فلو قطع عضو رقيق فعفا عنه سيده قبل معرفته بالعضو المعفو عنه صح العفو لأن العفو مستحب فقد رغب الشارع فيه وجعا إليه قال تعالى : { فمن عفا واصلح فأجره على الله أنه لا يحب الظالمين } آية 40 من الشورى وقول الرسول : ( من قتل له قتيل فأهله لين خيرتين : إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا اخذوا الدية ) .
وروى البيهقي وغيره عن أنس رضي الله تعالىعنه ( أن النبي A كان ما رفعاليه قصاص قط إلا أمر فيه بالعفو ) .
وعن عدي بن ثابت قال : هشم رجل فم رجل على عهد معاوية فأعطى دينه فأبى أن يقبل حتى أعطى ثلاثا ) فقال رجل : إني سمعت رسول الله A يقول : ( من تصدق بدم أو دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق ) رواه أبو يعلى .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله تبارك وتعالى عنه قال : سمعت رسول الله A يقول : ( ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله تبارك وتعالى عنه مثل ما تصدقه ) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح .
ولو أطلق الولي العفو عن القود ولم يتعرض للدية بنفي ولا إثبات فالمذهب لا دية عليه لأن القتل لم يوجب الدية على هذا القول والعفو إسقاط ثابت لا إثبات معدوم .
وفي قول آخر إن الدية تجب على القاتل في ماله لقوله تعالى : { فمن عفي له عن أخيه شيء فاتباع بالمعروف } أي اتباع المال وذلك يشعر بوجوبه بالعفو ولأن الدية بدل عن القود عند سقوطه بعفو أو غيره كموت الجاني مثلاصن فقد خير الشارع الولي بين أخذ المال وبين القصاص .
الحنفية والمالكية في روايتهم الثانية والشافعية في أرجح روايتهم والحنابلة في القول الآخر : - قالوا : إن الواجب بالقتل العمد معين وهو القود وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل لما ورد في الكتاب والسنة ولأن المال لا يصلح موجبا في العمد لعدم المماصلة والقصاص يصلح للتماصل وفيه زيادة حكمة وهي ممصلحة الأحياء زجرا للغير عن وقوعه فيه وجبرا للورثة فيتعين وقد شرع القصاص لمعنى النظر للولي على وجه خاص وهو الانتقام وتشفى الصدورن فإنه شرع في الصل زجرا عما كان عليه أهل الجاهلية من إفناء قبيلة بواحد لا لأنهم كانوا يأخذون أموالا كثرة عند قتل واحد منهم بل إن القاتل وأهله لو بذلوا كل ما ملكوه من الدنيا وأمثال ما رضي به أولياء المقتول فكان إيجاب المال في مقالبلة القتل العمد تضييع حكمة القصاص وإذا ثبت أن الأصل في العمد هو القصاص لم يجز المصير إلى غيره بغير ضرورة مثل أن يعفو أحد الأولياء فإنه تعذر الاستيفاء حينئذ أو أن يكون محل القصاص ناقصا بأن تكون يد قاطع اليد أقل إصبعا أو أن يكون القاتل أبا أو أما للمقتول فإنه يتعذر القصاص في أمثال هذه الحلات فيعل عنها إلى الدية صونا للدم من الهدر ا ه .
الشافعية والحنفية والحنابلة رحمهم الله - قالوا : إذا عفت المرأة سقط القصاص عن القاتل .
المالكية قالوا : لا مدخل للنساء في الدم مع قولهم في رواية أخرى : إن للنساء مدخلا في الدم كالرجال إذا لم يكن في درجتهن عصبة ومعنى أن لهن مدخلا أي في درجة الوقد والدية معا وقيل : في القود جون العفو وقيل : الاستيفاء للنساء بثلاثة شروط . إن كن وارثات ولم يساوهن عاصب في الدرجة وكن عصبة لو كن ذكورا .
الحنفية والمالكية رحمهم الله تعالى قالوا : إن الولي إذا عفا عن القصاص عاد إلى الدية بغير رضا الجاني وليس له العدول إلى المال إلا برضا الجاني وإن عفا ولم يقيد عفوه بديته ولا غيرها فيقتضي العفو مجردا عن الدية .
الشافعية والحنابلة - قالوا : إن الولي مخير بين القود والدية والعفو بغير مال فللولي العدول إلى الدية مطلقا سواء رضي القاتل أم لم يرض لأن الدية بدل عن القود وقيل : إن الدية بدل عن النفس لا عن القود بدليل أن المرأة لو قتلت رجلا وجب عليها دية الرجل فلو كانت بدلا عن القود وجب عليها دية المرأة وقال المتولي من علماء الشافعية : الواجب عند العفو دية المقتول لا دية القاتل وجمع بعضهم بين الطلامين بأن القود بد عن نفس المجني عليه وبدل البدل بدل .
قالوا : ولو عقا الولي عن القود على غير جنس الدية الصالح غيره عليه ثبت ذلك الغير أو المصالح عليه وإن كان أكثر من الدية إن قبل الجاني أن المصالح ذلكنسقط عنه القصاص وإذا لم يقبل الجاني أو المصالح ذلك فلا يثبت لأنه اعتياض فاشترط رضاهما كعوض الخلغ ولا يسقط عنه القود في الأصح إن امتنع عن دفعها لأنه رضي به على عوض ولم يحصل له .
قالوا : ولو عفا عن القود على نصف الدية فإنه يسقط عن القود الدية معا اه . )