- وقد عنيت الشرعة الإسلامية بالمحافظة على دماء الناس عناية تامة فددت الجناة الذين يعتدون على دماء الناس تهديدا شديدا ( 1 ) .
ويكفي في زجر المسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } فإن في هذه الآية من الشدة ما تقشعر له جلود العتادة إن كانوا مسلمين .
( 1 ) ( لقد جعل الله عقوبة قتل النفس من أفظع العقوبات وجعل القضاء بها من أعظم المظالم فيما يرجع إلى العباد وجعل الحساب عليها أول القضاء يوم القيامة . فعن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله A : أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ) رواه البخاري ومسلم أي في الأمر المتعلق بالدماء .
وقتل النفس من الموبقات المهلكات ومن أكبر الكبائر فقد روى أبو هريرة الله عنه أن رسول الله A قال : " اجتنبوا السبع الموبقات : قيل يا رسول الله : وما هن ؟ قال : الشرك بالله والسمحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
واعتبر الشارع أن للمسلم لا يزال في سعة منشرح الصدر فإذا أراق دم امرىء مسلم صار منحصرا ضيقا لما أوعد الله عليه مالم يوعد على غيره من دينه فيضيق عليه دينه بسبب الوعيد لقاتل النفس عمدا بغير حق .
عن ابن عمر Bهما قال : قال رسول الله A : ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ) وقال ابن عمر Bهما : إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله ) رواه البخاري C .
وقد ثبت في الشرع النهي عن قتل البهيمة بغير حق والعيد في ذلك فكيف بقتل الآدمي فكيف بالمسلم فكيف بقتل المرء الصالح عن البراء بن عازب Bه أن رسول الله A قال : ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ) رواه ابن ماجه .
وعن عبد الله بن عمرو Bهما قال : رأيت رسول الله A يطوف بالكعبة ويقول : ( ما أطيبك وما أطيب ريحك ما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك : ماله ودمه ) رواه ابن ماجة واللفظ له .
وعن أبي سعيد وابي هريرة Bهما عن رسول الله A قال : ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار ) . رواه الترمذي .
بل جعل الشارع الذنب على من أعان على قتل مؤمن بمال أو سلاح أو ساعده ولو بكلمة أو بنصف كلمة .
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله A : ( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ) رواه ابن ماجة .
وقد جعل الله تعالى جناية قتل النفس بعد الشرك والعياذ بالله تعالى وقرنه به حتى تدرك النفوس فظاعة هذه الجريمة وعظم خطرها وشدة عقابها يوم القيامة فقال تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } الآية 19 من سورة الفرقان .
وقال تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا } آية 29 ، 30 من سورة النساء .
وقد جعل الله تعالى وزر من قتل نفسا بغير حق حرمها الله تعالى مثل من قتل الناس جميعا لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس ومن حرم قتلها واعتقد ذلك فكأنما حرم دماء الناس جميعا وكأنه أحيا الناس جميعا فقد سلم الناس منه بهذا الاعتبارن قال تعالى : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا . ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } .
قال قتادة في قوله : { من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا } هذا تعظيم لتعاطي القتل . ثم قال : عظيم والله وزرها وعظيم والله أجرها وقال الحسن البصري فكأنما قتل الناس جميعا قال : وزرا { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } قال : أجرا .
وقال الله تعالى فيما أوصى به نبيه محمدا A وفي ذكر الأمور التي حرمها الله تعالى على عباده في الأرض { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } آية 151 من الأنعام . فقد نص الله تعالى على النهي عن قتل النفس التي حرمها تأكيدا واهتماما بشأنها وتعظيما لحرمتها وإلا فهو ذكر حرمتها في أول المنهيات . بالنهي عن قتل الأولاد فهو نهى عن قتل النفس كلها ثم النهي عن قتل النفس داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن فكأن الله تعالى نهى عن قتل النفس التي حرمها في هذه الآية ثلاث مرات متوالية .
روي عن أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه قال وهو محصور في داره بالمدينة . سمعت رسول الله A يقول : ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد أن هداني الله ولا قتلت نفسا فبم تقتلونني ) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة .
وقد بين الله تعالى حكم القتل العمد فذكر تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا لمن أقدم على هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في الآية ؟ ؟ من كتاب الله D والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثرة جدا ونكتفي بما ذكرناه سابقا .
وقد قال الله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالد فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } آية 93 من النساء .
قال البخاري : حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباسن فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } هي آخر ما نزل وما نسخها شيء وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة به .
قالوا : إن لقاتل العمد أحكاما في الدنيا وأحكاما في الآخرةن فأما في الدنيا فتسلط اولياء المقتول عليه قال تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لولنه سلطانا } الآية ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا أو يعفوان أو ياخذوا دية مغلظة أثلاثا ثلاثون حقه وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وأما في الآخرة فهو العذاب في نار جهنم والخلود فيها وغضب الله تعالى عليه والطرد من رحمته ولعنه والعذاب العظيم المضاعف كما ذكرت الآية الشريفة التي معنا .
ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه أن جوزي عليه وكذا كل وعيد على ذنب لكن قد يكون ذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه وبتقدير دخول القاتل النار إن مات ولم يتب ولم تكن له أعمال صالحة فعلى قول ابن عباس Bهما أنه لا توبة له . أي لا يقبل الله توبته وأما على قول جمهور العلماء حيث لا عمل له صالحا ينجو به فليس بمخلد فيها ابدا بل المراد بالخلود المذكور في الآية الكريمة هو المكث الطويل وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله A ( أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثال ذرة من إيمان ) وأما حديث معاوية ( كل ذنب عسى الله أن يغفر إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ) فعسى للترجي فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين انتفى وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل لما ذكرنا من الأدلة وأما من مات وهو كافر فالنص أن الله تعالى لا يغفر له البتة وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ولكن لا بد من رده إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة . فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تنقل إلى المقتول أو بعضهان ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعض الله المقتول بما شاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك حتى يرضى عن القاتل وقيل : إن الخلود في النار يحمل على أنه جزاء القتل العمد بطريق الاستحلال والعياذ بالله وهو مستلزم للردة وقيل يؤول الخلود في الآية على أنه لو عامله بعدله أو على معنى تطويل المدة مجازا فالمراد به المكث الطويل والله أعلم .
توبة القاتل .
ذهبت طائفة من علماء السلف إلى أنه لا توبة للقاتل منهم عبد الله بن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير والحسن البصري وقتادة والضحالك بن مزاحم Bهم . نقله ابن أبي حاتم .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا : حدثنا جرير عن يحيى الجابري عن سالم بن أبي الجعد قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ماترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واحد له عذابا عظيما . قال : أفرأيت إن تابن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمنه أو بشماله تشجب اوداجه من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول : يارب سل هذا فيم قتلني وأيم الذي نفس بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم A وما نزل بعدها من برهان ) .
وفي الباب أحاديث كثرة منه ما رواه الإمام أحمد حدثنا صقر بن عيسى حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية Bه يقول : سمعت رسول الله A يقول : ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ) .
وذهب الجمهور من سلف الأمة وخلفها إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله D . فإن تاب وأتاب وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيائته حسنات وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته قال تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } الآية وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر وقال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآية . وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك كل من تاب أي من أي ذلك تاب الله عليهن وقال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك بالله وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وفيها لتقوية الرجاء في رحمة الله والله أعلم .
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالما هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم ارشده إلى بلد يتعبد الله فيه فهاجر إليه . فمات في الطريق فقبضته ملائكة الرحمة وهذه الأمة أولى بالتوبة من بني إسرائيل .
الكفارة في قتل العمد .
الحنفية والمالكية والحنابلة في إحدى روايتيهم قالوا : لا تجب الكفارة في قتل العمد لأن الشارع شدد في أمر القاتل عمدا بالقتل أو الدية إذا عفا الأولياء عن قتله إلى الدية فلا يزاد على ذلك حيث ورج به النص ولن قتل العمد كبيرة محضة وفي الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها والكبائر لا تكون سببا لما فيه معنى العبادة والكفارة فيها ذلك فلا تجب وموضوعه في أصول الفقه وهو أن الكفارة لاتناط بماهو كبيرة محضة ولأن الكفارة من المقادير وتعينها في الشرع لدفع الأدنى وهو الخطأ لا يدل لدفع الذنب الأعلى وهو العمد فكم من شيء يتحمل الأدنى للقدرة عليه ولا يتحمل الأعلى للعجز عنه .
قال صاحب العناية : فإن قال الشافعي قد دل الدليل على عد صفة العمدية وهو حديث وائلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله A بصاحب لنا قد استوجب النار بالقتل فقال : اعتقوا عنه رقبة يتق الله كل عضو منها عضو منه من النار وإيجاب النار إنما يكون بالقتل العمد قلنا : لا نسلم لجواز أن يكون استوجب النار بشبه العمد كالقتل بالحجر أو العصا الكبيرين سلمناه لكنه لا يعارض إشارة قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } فإن الفاء تقتضي أن يكون المذكور كل الجزاء فلو اوجبنا الكفارة لكان المذكور بعضه وهو خلف . اه .
ولأن الله تعالى ذكر الجزاء الدنيوي على القتل العمد وهو القصاص بقول تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } وذكر الجزاء الأخروي بقوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } الآية . فلو قلنا : بوجوب الكفارة على القاتل عمدا لزدنا على النص وهو باطل ولأن القتل العمد أعظم من أن يكفر عنه مثل الصلاة المتروكة عمدا فإنهم اتفقوا على وجوب قضائها من غير كفارة .
الشافعية والحنابلة في روايتهم الثانية قالوا : أن الكفارة تجب في قتل العمد لأن العامد أغلظ إثما ممن كان قتله خطأ فكانت الكفارة به أليق ممن كان قتله خطأ وقد اتفقوا على وجوب الكفارة في القتل الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى فطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس الواجبة بانص قال تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } الآية .
واحتجوا على مذهبهم بما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن السقع قال : أتى النبي A نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد اوجب يعني النار بالقتل قال : ( فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه من النار ) وإيجاب النار غنما يكون بالقتل العمد . فهذا دليل واضح على أن الكفارة تجب في قتل العمد )